لطالما استخدمت إيران الجماعات المسلحة في المنطقة كأدوات لتحقيق مصالحها الإقليمية، متذرعةً بشعارات المقاومة والدفاع عن المستضعفين. لكنها، في لحظات الحسم، تتخلى عن هذه الجماعات وتتركها لمصيرها المحتوم، في مشهد يتكرر عبر التاريخ. فمن لبنان إلى فلسطين وسوريا واليمن، تبدو إيران وكأنها تستثمر في الحروب لا لتحقيق النصر، بل لإدامة الصراعات دون أن تخسر شيئًا، بينما يُترك حلفاؤها ليواجهوا مصيرهم وحدهم. فهل هذا التخلي نابع من تخادم مكشوف بين إيران والقوى الكبرى، أم أنه مجرد عجز عن دعم من تزج بهم في أتون المعارك؟
حماس.. خذلان في لحظة الحقيقة
مع بدء الحرب الأخيرة في غزة، كانت التوقعات تشير إلى تدخل إيراني مباشر أو على الأقل تصعيد كبير من قبل حلفائها في المنطقة، لكن ما حدث كان العكس تمامًا. اكتفت إيران بالتصريحات الإعلامية، وتركت حماس تواجه حربًا مدمرة وحدها، دون أي دعم عسكري أو حتى ضغط سياسي حقيقي على القوى الكبرى. حتى بعد سقوط قيادات بارزة في حماس، استمرت طهران في سياسة “الإدانة الكلامية” دون أي فعل حقيقي، مما كشف حجم الانتهازية في علاقتها بالفصائل الفلسطينية.
حزب الله.. تخلٍّ مذلّ بعد عقود من الاستثمار
لكن الضربة الأكبر جاءت لحزب الله في لبنان، حيث وجد نفسه في مواجهة مباشرة مع إسرائيل، دون دعم فعلي من إيران، رغم التصعيد الكبير. الضربات الموجعة التي تلقاها الحزب، والتي انتهت بتصفية حسن نصر الله وكبار قادته، كشفت عن ضعف الحماية الإيرانية لحلفائها. تدمير البنية التحتية للحزب في الجنوب اللبناني، وإجباره على الانسحاب إلى ما بعد “الخط الإيطالي”، كان بمثابة هزيمة كبرى لمشروع إيران في لبنان، وهو ما دفع البعض للتساؤل: هل كان الحزب مجرد ورقة بيد إيران، أحرقتها في اللحظة المناسبة؟
سقوط بشار الأسد.. إيران تنسحب بهدوء
أما في سوريا، فبعد سنوات من الدعم المطلق لنظام بشار الأسد، تخلت طهران عنه مع اشتداد الضغوط الدولية والإسرائيلية والروسية. رغم أن إيران كانت من أبرز الداعمين للنظام منذ بداية الحرب، فإنها في النهاية انسحبت تدريجيًا، تاركةً النظام يواجه مصيره. سقوط الأسد كان بمثابة نهاية أخرى لمغامرات إيران في المنطقة، حيث لم تستطع تحمل تكلفة الدفاع عنه إلى النهاية، وفضلت الانسحاب للحفاظ على مكاسبها المتبقية.
الحوثيون.. الضربة القاضية
واليوم، يتكرر السيناريو ذاته في اليمن، حيث يتعرض الحوثيون لضربات موجعة تستهدف مراكز القيادة ومعسكراتهم ومخازن الصواريخ والطائرات المسيرة، دون أي رد فعل إيراني. رغم أن طهران كانت تقدم الدعم العسكري واللوجستي لهم لسنوات، فإنها اليوم تبدو عاجزة أو غير راغبة في التدخل لإنقاذهم. هذه الضربات، التي تتم في هذه اللحظات، تكشف أن إيران لا تمتلك استراتيجية حقيقية للدفاع عن حلفائها، بل تستخدمهم حتى تنتهي صلاحيتهم، ثم تتخلى عنهم بكل بساطة.
التخادم أم العجز؟
السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل إيران تتخلى عن حلفائها لأنها عاجزة عن الاستمرار في دعمهم، أم أن هناك تخادمًا مكشوفًا بينها وبين القوى الكبرى؟ البعض يرى أن إيران لم تكن تنوي الانتصار في أي من هذه الجبهات، بل كانت تستثمر في هذه الصراعات لإدامة نفوذها الإقليمي دون الدخول في مواجهة مباشرة. فبمجرد أن يتغير ميزان القوى، تجد طهران نفسها مضطرة للتخلي عن حلفائها للحفاظ على بقائها، مما يجعل هؤلاء مجرد أدوات مرحلية في مشروعها التوسعي .
متى يتوقف العرب عن دفع الثمن؟
سواء كان انسحاب إيران من هذه الساحات تخادمًا أم عجزًا، فإن النتيجة واحدة: المسلمون العرب هم من يدفعون الثمن الأكبر، بينما تستمر إيران في مناوراتها السياسية. الشعوب العربية اليوم أمام درس جديد من دروس التاريخ: التحالف مع طهران لا يعني إلا مزيدًا من الدمار والتخلي في لحظة الحقيقة. والسؤال الأهم هنا: متى تدرك هذه الشعوب أن استخدامها كوقود لحروب الآخرين لم يعد خيارًا مقبولًا؟