في لعبة التوازنات الإقليمية، يبدو أن إيران تدرك جيدًا طبيعة المشهد الدولي والإقليمي، متسلحة بفهم عميق للحدود القصوى التي يمكن أن يصل إليها خصومها. فبحسب التحليل الاستراتيجي، تعتمد طهران على قناعة راسخة بأن الولايات المتحدة، تحت قيادة دونالد ترامب لا تميل إلى الحروب المباشرة، وأن أقصى ما يمكن أن تلجأ إليه واشنطن وتل أبيب هو القصف الجوي، وهي ورقة استخدمتها إسرائيل والولايات المتحدة مرارًا لكنها لم تسفر عن تغيير جذري في المعادلة.
إيران بين الضربة التدميرية وإعادة البناء
تشير التجربة التاريخية إلى أن القوى الكبرى، عندما قررت إنهاء العراق كقوة إقليمية، لم تكتفِ بالقصف الجوي، بل لجأت إلى اجتياح عسكري كامل أسقط النظام، وأعاد تشكيل المشهد السياسي بالكامل. ومع ذلك، لم يتكرر هذا السيناريو مع إيران، رغم أنها تمثل تهديدًا معلنًا لأمن المنطقة، مما يدفع للتساؤل: هل يعود ذلك إلى قوة إيران الذاتية، أم إلى كونها جزءًا لا يتجزأ من معادلة إقليمية ودولية تقتضي الإبقاء عليها كعامل توازن مقلق؟
إيران، التي طالما استثمرت في قدرتها على إعادة بناء قوتها العسكرية والاقتصادية بعد كل ضربة تتلقاها، تدرك أن خصومها يمتلكون القدرة على إلحاق الضرر بها، لكنهم يتجنبون تجاوز الخطوط الحمراء التي قد تؤدي إلى تفكك نظامها بالكامل. ففي ظل المعادلة الحالية، يظل وجود إيران القوية بما يكفي لإثارة القلق العربي والخوف من جارتهم الشرقية لضمان عدم تشكيل تهديد وجودي لإسرائيل من قبل العرب، وضرورة استمرار الاستنزاف المالي للدول العربية، تحت ذريعة الحماية من “الخطر الإيراني”.
العرب بين مطرقة التهديد الإيراني وسندان الحماية الدولية
لا يمكن تجاهل أن الدول العربية، وعلى رأسها دول الخليج، ظلت لسنوات طويلة تنفق مليارات الدولارات على التسلح، وتوطيد تحالفاتها مع الغرب لحماية أمنها من التهديد الإيراني. هذه الديناميكية لم تتغير جذريًا رغم كل التقلبات السياسية، مما يطرح تساؤلًا جوهريًا: هل يُراد لإيران أن تبقى في هذا الدور إلى أجل غير مسمى، لضمان بقاء الحاجة العربية إلى الحماية الدولية، وبالتالي استمرار التدفق المالي إلى منظومات التسليح الغربية؟
ربما يكمن سر عدم تعرض إيران لضربة تدميرية في أن استمرار وجودها، بمزيج من القوة والضعف، يخدم معادلة توازن القوى التي تضمن إبقاء المنطقة في حالة استنزاف دائم، وتحول دون أي تقارب عربي-إسرائيلي فعلي قد يؤدي إلى تغيير جذري في قواعد اللعبة. فكلما تصاعد التهديد الإيراني، كلما زاد الضغط على الدول العربية للارتماء أكثر في أحضان القوى الكبرى، وبالمقابل، كلما زاد الاستنزاف المالي والاقتصادي لهذه الدول.
هل من مخرج؟
في ظل هذه المعادلة، يبقى السؤال الأهم: هل تدرك الدول العربية أن استراتيجياتها القائمة على رد الفعل والاستنزاف المالي لن تؤدي إلى حسم المعركة، وأن الحل يكمن في استراتيجية مختلفة تضع مصلحة الشعوب أولًا؟ إن استمرار الاعتماد على الخارج لمواجهة إيران قد يكون جزءًا من المشكلة، وليس الحل، في ظل معادلة دولية لا تزال ترى في بقاء التهديد الإيراني عنصرًا ضروريًا لضمان استدامة الهيمنة على مقدرات المنطقة.
من الواضح أن هناك تحولات جوهرية تجري في الشرق الأوسط قد تعيد رسم موازين القوى من جديد، ولكن لا يمكن القول إن إيران سيتم تحييدها بالكامل بسهولة، على الأقل في المدى القريب.
التحالف القائم بين الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل يعمل بوضوح على الحد من النفوذ الإيراني، سواء عبر الضغوط الاقتصادية، أو استهداف وكلائها، أو من خلال إعادة بناء تحالفات إقليمية جديدة مثل “الناتو العربي”. ومع ذلك، فإن تحييد إيران يتطلب أكثر من مجرد إجراءات عسكرية أو دبلوماسية؛ فهو يتطلب إعادة تشكيل النظام السياسي داخل إيران نفسها، وهو ما قد يكون الهدف البعيد لهذه الاستراتيجية.
لكن هل قواعد اللعبة القديمة في طريقها إلى الزوال؟ جزء كبير من المعادلة التي تم ترسيخها منذ الثورة الإيرانية عام 1979 كان قائماً على استخدام إيران كأداة في معادلة “احتواء العرب”، لكن هذه المعادلة لم تعد تخدم المصالح الإسرائيلية والبريطانية بنفس الفعالية، خاصة بعد أن أصبح النفوذ الإيراني تهديدًا مباشرًا. هذا قد يفسر لماذا إسرائيل وبريطانيا تدفعان نحو تغيير هذه القواعد، رغم أن أمريكا كانت مترددة في زمن الديمقراطيين اما بوجود ترامب الامر مختلف، ان حسم الأمر يتطلب
تواصل الضغط على ايران وتفكيك القوى التابعة لها في العراق وما تبقى في لبنان واليمن، حينها قد نشهد شرق أوسط جديد. تتراجع فيه أهمية الدور الإيراني لصالح ترتيبات أكثر استقراراً للغرب وإسرائيل والعرب، لكن ذلك سيعتمد على ما إذا كان هناك بديل واضح لإيران في هذه المعادلة الجديدة. كي يتم انتفاء الحاجة لها ياترى هل البديل اسرائيل نفسها ام بوجود بريطانيا بشكل فاعل ومباشر بالعراق وبتوافق امريكي؟ الامر الذي سيسدل الستار على اللعبة القديمة التي طال امدها .
في ظل هذه التحولات، هل نحن أمام لحظة إعادة تشكيل فعلية للخريطة السياسية في الشرق الأوسط، أم أن القوى الكبرى ستجد طريقة أخرى لإعادة تدوير المعادلة ذاتها بحلة جديدة، بحيث يتم استبدال أدوار اللاعبين مع بقاء جوهر اللعبة على حاله؟