تمسك طهران بالانفتاح على المحيط العربي والخليجي يفرض إظهار مزيد من الجدية وكثير من الرغبة في تعميق هذه العلاقة
حسن فحص كاتب وصحفي
سياسة الإنكار انتهت مع كشف عبداللهيان عن وجود وثيقة تم التوصل إليها والتفاهم حولها بين إيران ومجموعة السداسية الدولية (أ ف ب/ غيتي)
سياسة الإنكار التي مارسها النظام الإيراني عبر إدارته الدبلوماسية والحوار غير المباشر مع الولايات المتحدة، بخاصة في ما يتعلق بمفاوضات إعادة إحياء الاتفاق النووي، انتهت مع كشف وزير الخارجية حسين أمير عبداللهيان عن وجود وثيقة تم التوصل إليها والتفاهم حولها بين إيران ومجموعة السداسية الدولية، وتحديداً الولايات المتحدة في سبتمبر (أيلول) 2022، إلا أن الدبلوماسية الإيرانية لا تنسى في هذه المناسبة أن توجه اللوم والاتهام إلى إدارة البيت الأبيض بعرقلة وتعطيل الاتفاق أو التوقيع على هذه الوثيقة نتيجة رهاناتها على ما يمكن أن تشهده إيران من تطورات نتيجة الأحداث والاحتجاجات التي اندلعت بعد مقتل الفتاة مهسا أميني على يد “شرطة الاخلاق” في العاصمة طهران.
والكشف الإيراني عن “وثيقة سبتمبر” تضمن كثيراً من الخطوات التي من المفترض أن تقوم بها الأطراف أو العواصم المعنية بـ “اتفاق 2015″، بخاصة واشنطن وعواصم الـ “ترويكا” الأوروبية، ولعل أبرزها جاء في التسريبات المتعلقة بتقرير مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية رافايل غروسي عن تراجع عمليات تخصيب اليورانيوم بمستوى 60 في المئة.
وفي هذا السياق فإن غالبية التوقعات حول النقاط التي تم التفاوض عليها بصورة غير مباشرة بين واشنطن وطهران بوساطة عُمانية، تتضمن مراحل عدة يمكن تسميتها بمراحل بناء الثقة بين الطرفين، تبدأ بتوقيع وزراء خارجية المجموعة على الوثيقة الجديدة ثم تنتقل إلى تطبيق آليات العودة للاتفاق النووي خلال المرحلة السابقة، وتنطلق من مسودة التعاون التي حملها منسق العلاقات السياسية والخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل في آخر زيارة قام بها إلى العاصمة الإيرانية، والتي يمكن القول إنها شكلت خريطة طريق بين إيران والمجموعة الدولية، وتبدأ من التعاون الجدي بين طهران والوكالة الدولية حول النقاط العالقة في برنامجها النووي المتعلقة بتجميد التخصيب والإجابة عن أسئلة حول المواقع السرية في تورقوزآباد وورامين، في مقابل الإبقاء على البنى التحتية في منشآت أجهزة الطرد المركزي شرط فصلها عن التيار الكهربائي، بحيث لا تستغرق عملية إعادة تفعيلها أكثر من عام واحد في حال تم الإخلال بالاتفاق، وبالتالي تلبي الشرط الذي وضعه مرشد النظام كمدخل لأية عملية تفاوض نووية، وتنتهي بإصدار الرئيس الأميركي جو بايدن أمراً إدارياً يلغي بموجبه الأوامر الإدارية التي أصدرها سلفه الرئيس السابق دونالد ترمب بعد إعلانه الانسحاب من الاتفاق عام 2018، وفرض بموجبها سلسلة من العقوبات الاقتصادية التي وصفت بالخانقة والمشددة.
ويبدو أن مشاركة الوفد الإيراني في أعمال الجمعية العمومية للأمم المتحدة التي من المفترض أن تكون بقيادة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي وعضوية وزير خارجيته عبداللهيان ومسؤول الفريق المفاوض علي باقري كني، لن تكون مقتصرة على الجانب النووي الذي من المتوقع أن يشهد تطوراً جدياً يتمثل في عقد مفاوضات مع “السداسية الدولية” تمهد للانتقال إلى خطوة إعادة تفعيل “وثيقة سبتمبر”، بل تذهب التقديرات إلى إمكان عقد لقاء بين إيران ودول مجلس التعاون الخليجي ضمن إطار يصب في سياق الرؤية التي حملها عبداللهيان إلى السعودية خلال زيارته الأخيرة، ومسألة التعاون الإقليمي التي بحثها مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.
وانطلاقاً من أن أروقة الأمم المتحدة شهدت بداية اللقاءات التشاورية بين دول مجلس التعاون الخليجي وإيران برعاية الأمين العام أنطونيو غوتيريش، فإن التوقيع على الاتفاق السعودي – الإيراني برعاية صينية في مارس (آذار) الماضي، ولاحقاً الاتفاق الأمني بين إيران ودولة الإمارات العربية المتحدة، يدفع إيران نحو البحث عن آليات حقيقية لرفع مستوى التعاون والتنسيق مع جوارها العربي وتحديداً الخليجي، وأن تسعى إلى الدفع باتجاه بناء منظومة إقليمية بالتعاون مع هذه الدول تسمح بتخفيف ضغوط الوجود العسكري للقوات الأميركية من جهة، وقوات حلف الـ “ناتو” من جهة أخرى.
والتمسك الإيراني بالانفتاح على المحيط العربي عموماً والخليجي بخاصة، وإعادة الزخم لهذا المسار بعد الضغوط والعراقيل التي واجهها خلال الأشهر الأخيرة وأسهمت في تباطؤه، يفرض على طهران إظهار مزيد من الجدية وكثير من الرغبة في تعميق هذه العلاقة، ولعل إشارة المرشد الأعلى للنظام خلال لقائه الأخير مع الكادر الحكومي حول سياسة الانفتاح على الجوار التي تقودها حكومة رئيسي، تصب في مصلحة المنطقة وأمنها واستقرارها، وقد تكون المدخل أو الغطاء لأية تنازلات أو ليونة في المواقف الإيرانية لتعزيز الثقة بنياتها تجاه هذه الدول.
والحراك الدبلوماسي الذي يقوم به وزير الخارجية الإيرانية في الإقليم وجاء بعد زيارته إلى الرياض، يكشف بوضوح أن طهران تسعى إلى لجم أي تطور سلبي قد يجر المنطقة نحو مواجهات عسكرية على أكثر من محور، فالزيارة الإيرانية إلى سوريا ولبنان جاءت في ظل تصعيد متجدد سورياً على جبهتين، الأول تمثل في عودة التظاهرات والاحتجاجات المطالبة بإسقاط النظام في السويداء ودرعا، والثاني في المواجهات بين العشائر العربية وقوات “قسد” الكردية في مناطق شرق الفرات، فضلاً عن لجم التصعيد على الحدود المشتركة بين سوريا والعراق، والجهد الذي بذلته من أجل منع تحول التصعيد بين قواتها والفصائل العراقية والسورية الموالية لها مع القوات الأميركية شرق الفرات إلى مواجهة عسكرية، كان من الممكن أن تنتهي إلى تغيير قواعد الاشتباك بينها وبين الولايات المتحدة، وتؤدي إلى قطع طرق التواصل والإمداد من طهران إلى بيروت، وبالتالي فإن الحفاظ على الـ “ستاتيكو” القائم والتهدئة يعتبر الهدف الأساس، ويصب في إطار تعزيز التفاهمات مع الإدارة الأميركية وبخاصة على الساحة العراقية.
ومن هنا يمكن الدخول على زيارة وزير الخارجية التركي هاكان فيدان إلى طهران خلال الأيام الماضية، وما يمكن أن تلعبه طهران من دور إيجابي في إعادة الحرارة على خط الحوار والتفاوض التركي مع النظام السوري من جهة، ومحاولة الحصول على ضمانات إيرانية بعدم حصول مواجهات بين الفصائل الموالية لها والقوات التركية داخل الأراضي السورية، قبل التوصل إلى تفاهمات في إطار “مسار آستانا” والحلول الممكنة لمناطق نفوذ المسلحين الموالين لأنقرة في محافظة إدلب، بخاصة وأن المواجهات التي حصلت بين العشائر العربية وقوات “قسد” تصب في مصلحة تركيا التي تتذرع بورقة الطموحات الكردية والتهديد الأمني لهذه الجماعات، إلا أن الجانب الأبرز وغير المعلن في الزيارة التركية التي أخذت طابعاً دبلوماسياً – أمنياً نتيجة شخصية وزير الخارجية فيدان، هو الرغبة التركية في التأسيس للقاء ثلاثي يجمع البلدين إلى السعودية، لبناء وتنسيق موقف والتأسيس لدور يعتمد على موقع وتأثير هذه الدول الثلاث في المستويين الإقليمي والدولي.