إيران والعراق: خيارات واشنطن

1

طهران تفضل مواجهة أميركا بدماء العرب وفوق أراضيهم لمعرفتها بهشاشة نظامها السياسي المرفوض شعبياً

خالد اليماني وزير الخارجية اليمني السابق

تفاخر إيران كثيراً بأنها تتلقى رسائل تلو الرسائل من واشنطن عبر وسطاء إقليميين بعدم رغبة الأخيرة في توسيع الحرب (غيتي)

التصريحات الصادرة خلال الأيام الأخيرة عن قيادات بارزة في الحكومة العراقية عن جهود بذلها رئيسها محمد شياع السوداني لإقناع الميليشيات بوقف حربها ضد الوجود الأميركي، أقل ما يقال عنها أنها مجرد كلام مرسل لا قيمة له، وكذلك هو الادعاء بأن قرار السلم والحرب هو بيد الحكومة وليس بيد الميليشيات التي تحولت إلى قوة عسكرية ضاربة تضاهي الجيش وبموازنة معلنة تفوق الـ 3 مليارات دولار سنوياً، إضافة إلى ما تتلقاه من أسلحة وعتاد عسكري من طهران، وهي لا تخفي ولاءها المطلق لدولة الملالي.

رئيس الوزراء العراقي قيادي بارز في “حزب الدعوة الإسلامية” الذي قاتل أعضاؤه مع الجيش الإيراني ضد سيادة العراق في ما عرف بـ “الحرب العراقية – الإيرانية” خلال ثمانينيات القرن الماضي، وهو يعرف تماماً أن قرار الحرب والسلم في العراق اليوم بيد الميليشيات العميلة لإيران، فعلى رغم الرسائل اليومية التي خرجت من طهران خلال الأيام الماضية في محاولة لوضع مسافة بينها وبين ميليشياتها العميلة بالمنطقة، إلا أن الموقف الرسمي الإيراني على عكس تلك الرسائل يعمل على التحريض السري للفصائل العراقية وتمويلها وتسليحها لمحاربة أميركا وإخراجها من العراق، فقد وجه المرشد خامنئي أخيراً رسالة مباشرة لما سماها “جبهة المقاومة” بأن تكون على “أهبة الاستعداد في مواجهة الاستكبار، وأن تضرب إذ تطاول يدها”، في توجيه صريح يطلق العنان للإرهاب الإيراني في المنطقة.

كما قال وزير الخارجية الإيرانية خلال تصريح الأسبوع الماضي إن “العراق يناضل من أجل استقلاله والدفاع عن إخوانه، ولهذا فهو يهاجم القوات الأميركية في العراق وسوريا”، وهو إعلان حرب تبنته إيران، إذ أكد رئيس أركان القوات المسلحة الإيرانية اللواء محمد باقري من داخل بغداد استعداد قوات بلاده لـ”الدفاع” عن سيادة الأراضي العراقية ضد أية تهديدات تطاولها من أي جهة أجنبية، في إشارة إلى الخلافات بين بغداد وواشنطن حول الوجود العسكري الأميركي، وأخيراً حركت أطراف عميلة لإيران في بغداد ملف المحاكمات النائم في قضية ملاحقة مرتكبي عملية استهداف قاسم سليماني.

ويأتي بيان “حزب الله العراقي” وصيغته التي تصر في المقام الأول على إبعاد إيران عن المسؤولية قبل أن تعلن وقف عملياتها ضد القوات الأميركية، مما يعني أن إيران تدرك أنها تجاوزت الخطوط الحمر وأن رد الفعل الأميركي لن يكون كسابقيه، فوجهت بخفض التصعيد في محاولة للتأثير في قرار إدارة الرئيس بايدن الذي أشار إلى أن الرد سيكون متواصلاً وعلى مراحل، وتعرف الحكومة العراقية ماذا يعني قول واشنطن بـ “حق الدفاع عن النفس”، مضافاً إلى حق دولة الأردن الجارة في الدفاع عن سيادتها.

الرد الأميركي والانتخابات

تفاخر إيران كثيراً بأنها تتلقى رسائل تلو الرسائل من واشنطن عبر وسطاء إقليميين بعدم رغبة الأخيرة في توسيع الحرب داخل المنطقة، وفي ضوء تصريحات الرئيس بايدن خلال الأيام القليلة الماضية التي تشدد على أن إيران تتحمل المسؤولية لكن واشنطن لا تسعى إلى الحرب معها، فإن طهران تقرأ هذه الرسائل من زاوية نشوة القوة التي تعتريها واعتقادها بخوف أميركا من المواجهة المباشرة معها، خصوصاً في العام الانتخابي.

ويعتقد كثير من المتعاطفين مع “محور المقاومة” أن إيران التي طالما أعادت أسباب انعدام الأمن والاستقرار في المنطقة للوجود غير القانوني للقوات الأميركية وتدخلها السافر في شؤون دولها، فقد باتت اليوم على مشارف إحكام السيطرة على العراق، الدولة العربية ذات الوضع الصعب والرخو، وجني ثمار رؤيتها الأيديولوجية لإزاحة أميركا إستراتيجياً من المنطقة والحلول محلها.

ومن المثير فعلاً رؤية أكاديميين وخبراء في الشأن الإيراني يتحدثون من واشنطن، مثل ذلك الذي ظهر أخيراً في برنامج بيكي أندرسون في الـ “سي أن أن” ليقول إن التصعيد مع إيران ليس هو الحل، بل إنه سيؤدي إلى وحدة الصف الإيراني، مبرراً بأن ميليشيات إيران في المنطقة لا تتلقى توجيهات مباشرة من طهران، كما هو الحال مع حلفاء أميركا الذين لا يتلقون توجيهات من واشنطن، وهي مقارنة ضيزى بين دول ذات سيادة وميليشيات إرهابية بتوصيف القانون الدولي، ومثل هذا الأكاديمي كثير في “لوبي إيران” يعملون على التأثير في عملية صنع القرار للقوة الأعظم في العالم.

لقد تحدث الرئيس السابق دونالد ترمب مراراً حول الطريقة التي عالج بها البيت الأبيض إبان إدارته قضية تصفية قاسم سليماني، والرسائل التي بعث بها نظام الملالي إلى واشنطن حول حاجته إلى طوق نجاة داخلي لرفع العتب والرد الشكلي على استهداف سليماني، وهذا ما حدث فعلاً، وطويت بذلك صفحة أبرز عناصر الإرهاب الإيراني في المنطقة العربية.

وأكرر هنا مرة أخرى أن الرسائل الملتبسة مع إيران على غرار أن أميركا لا تريد مواجهة مع إيران أو توسيع نطاق الحرب تقرأ بصورة خاطئة في طهران، وما قيامها بسحب قيادات الحرس الثوري العاملة في سوريا موقتاً إلى الداخل الإيراني إلا لإيمانها بأنهم سيكونون بمأمن داخل أوكارهم في إيران، اعتقاداً منهم أن أميركا لن تجرؤ على استهداف دولة الملالي.

وعلى رغم محاولات إيران التبرؤ من دورها في عملية “حزب الله العراقي” إلا أن النفي الإيراني لا ينطلي على أحد، فقد تعرضت القوات الأميركية في العراق وسوريا لأكثر من 80 استهدافاً خلال الأشهر القليلة الماضية، وتدرك إيران اليوم أن إستراتيجيتها للتخفي خلف عملائها باتت مفضوحة، فلا يوجد في عالمنا اليوم من تنطلي عليه فكرة أن إيران ليست سوى متفرج متعاطف ليس إلا، لا يسهم في ما يحدث في المنطقة.

خيارات دقيقة

ومعلوم أن إدارة بايدن في مرحلة دقيقة من عمرها السياسي وهي تخوض الانتخابات الرئاسية، فيما استطلاعات الرأي تعطي تقدماً ملحوظاً لمرشح الحزب الجمهوري الرئيس السابق دونالد ترمب، فرسائل واشنطن وأفعالها ستحدث فرقاً إما باتجاه تعزيز مكانة ومنعة القوات الأميركية في الشرق الأوسط، وإما باتجاه وضعها في خطر محدق ومفتوح على جميع الاحتمالات مع ميليشيات إيران التي باتت تستخدم أحدث أساليب الحرب غير التقليدية، وسياسياً فإنه من المحتم أن بايدن لا يريد أن يخوض حملته الانتخابية لولاية ثانية بصورة الضعيف وغير الحازم مع إيران.

وتتناول وسائل الإعلام الأميركية ومراكز الدراسات بدائل الإدارة للتعامل مع الخطر الإيراني، ونشر كثير حول الخيارات العسكرية للانتقام من مقتل عناصر الجيش الأميركي الأحد في “معسكر البرج 22” على الحدود الأردنية – السورية، ولم تتوافر حتى هذه اللحظة تفاصيل عن الرد الأردني على الاعتداء السافر على سيادته والقادم من دولة شقيقة هي العراق.

وحتى ساعة الانتهاء من كتابة هذه المقالة لم تبدأ العمليات العسكرية الأميركية، ووسائل الإعلام الأميركية تؤكد أن الهجوم أصاب عصباً في كرامة العسكرية الأميركية، وأن الرد سيكون عبر حملة واسعة من الضربات الجوية ولأيام عدة ضد مجموعة واسعة من المراكز العسكرية ومراكز القيادة والسيطرة، وربما تشمل مهاجمة البنية التحتية لـ “فيلق القدس” في دول المنطقة وضرب الوجود الإيراني في الخليج وتدمير البنية التحتية للميليشيات الإيرانية في العراق، مثل استهداف “حزب الله العراقي”.

وبتقدير كثيرين فإن العمل العسكري سيترافق مع عمل دبلوماسي متواصل في عواصم المنطقة، وربما يكون الأمر مزيجاً من الضربات والرسائل، وتكون البداية بتدمير البنية التحتية للميليشيات العراقية والتعامل السياسي مع إيران والعراق، الدولة العربية التي باتت بين شقي رحى، وسيتطور الرد الأميركي بما يتجاوب مع الرد الإيراني وبصورة تصاعدية وصولاً إلى مرحلة ضرب البنية التحتية لـ “الحرس الثوري الإيراني” و”فيلق القدس” والصناعات العسكرية الإيرانية.

وحينما تقول إيران بأنها لا تريد خوض حرب مفتوحة مع أميركا فوق أراضيها فإنها تقول ذلك خشية أن ينهار المارد الأجوف، فإيران تفضل مواجهة أميركا بدماء العرب وفوق أراضيهم لمعرفتها بهشاشة نظامها السياسي المرفوض من الشعب الإيراني، وحينما يقول من يدعي خبرة في الشأن الإيراني لـ “سي أن أن” إنه في حال نشوب الحرب مع إيران سيقف الشعب الإيراني صفاً واحداً خلف النظام، وأمثال هؤلاء يعرفون تماماً أن نظام الملالي قتل الشعب الإيراني وسرق قوت يومه لمصلحة تمويل إرهاب ميليشيات عميلة، وبأنه دمر مقدراته وثرواته، فهو يمارس أشكالاً من التدليس السياسي المجانب للحقيقة.

التعليقات معطلة.