في صدفة غريبة، لها دلالتها غير المقصودة، يوافق يوم إجراء الانتخابات الرئاسية الأميركية، يوم غدٍ الثلاثاء في 3 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، “اليوم الوطني لمقارعة الاستكبار العالمي” في التقويم الرسمي الإيراني. وفي هذا اليوم، ستكون عيون الإيرانيين متجهة نحو صناديق الاقتراع في الولايات المتحدة، لمعرفة اسم الفائز في انتخابات الرئاسة التي يتنافس فيها الرئيس الحالي دونالد ترامب والديمقراطي جو بايدن، وذلك في اهتمام غير مسبوق يبديه الشارع الإيراني حيال الانتخابات الأميركية، التي باتت حديث الساعة في البلاد. يأتي ذلك والجمهورية الإيرانية قد تكون من أكثر البلدان تأثراً بنتائج هذا الاستحقاق، سواء فاز ترامب بولاية ثانية، أو انتصر غريمه الديمقراطي، نائب الرئيس السابق. ويعتبر بعض المراقبين أن نتائج الانتخابات الأميركية، من شأنها أن تلعب دوراً مهماً في رسم اتجاهات الانتخابات الرئاسية الإيرانية المزمع إجراؤها في مايو/أيار 2021 وفرز هوية الرئيس الإيراني المقبل.
وأثار التركيز الشعبي الإيراني غير المسبوق بالانتخابات الأميركية، تساؤلات عن الأسباب، وانتقادات في الوقت ذاته، إذ يعتبر بعض العقائديين في طهران أن هذا الأمر ليس صحياً وأنه تعويل على الأجانب لا يتماشى مع مبادئ الثورة الإسلامية الداعية إلى إنهاء المؤثرات الأجنبية كأحد أبرز شعاراتها. غير أن آخرين يرون أن هذا الاهتمام طبيعي، لكون الانتخابات الأميركية السابقة في العام 2016، أفرزت رئيساً نقل خلال السنوات الأربع الماضية الصراع مع إيران إلى مرحلة غير مسبوقة طوال الـ40 عاماً الماضية، بعد انسحابه من الاتفاق النووي مع طهران في العام 2018، وفرضه عقوبات اقتصادية “تاريخية” عليها. وأحدث ذلك أزمة اقتصادية خانقة في إيران، خلقت ظروفاً معيشية صعبة للغاية، فاقمها انتشار فيروس كورونا منذ بداية العام الحالي تقريباً. وتصاعدت إزاء ذلك الانتقادات للحكومة، وللرئيس حسن روحاني، الذي ردّ من جهته بمطالبة المنتقدين بـ”توجيه لعناتهم نحو البيت الأبيض”، وليس نحوه، محمّلاً دونالد ترامب مسؤولية الأزمة الاقتصادية في بلاده.
يبدي الشارع الإيراني اهتماماً غير مسبوق حيال الانتخابات الأميركية، التي باتت حديث الساعة في البلاد
المرشح المفضل
على المستوى الرسمي، تقول الحكومة الإيرانية إن طهران ترصد وتتابع “عن کثب وبدقة” تطورات الانتخابات الأميركية، مع تأكيدها أن ما يهمها هو السلوك والسياسات، وليس هوية من يسكن في البيت الأبيض. وفي السياق، كررت هذه الحكومة أكثر من مرة، أنه بالنسبة إليها، لا فرق بين فوز بايدن أو ترامب. مع ذلك، لا يخفى أن إيران هي من بين الأطراف الدولية الراغبة بهزيمة مدوية لترامب، مفضّلة بايدن عليه، على الرغم من تسجيل ملاحظات وتحفظات على أداء الديمقراطيين. هذا الأمر بدا واضحاً في تصريحات المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، سعيد خطيب زادة، في 19 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، تعليقاً على الاستحقاق الأميركي، إذ قال إن “ترامب ارتكب جرائم لم يقترفها بايدن”، في تلميح إلى أن الأخير مفضل بالنسبة لبلاده.
لم يُسمِ المتحدث الإيراني “الجرائم” التي ارتكبها ترامب، غير أن معرفتها لا تحتاج إلى تفكير عميق وتفحص، فهو الرئيس الأميركي الذي فرض “أقسى وأشد العقوبات التاريخية” على إيران، وأصدر أمراً باغتيال أرفع جنرالاتها، الذي كان اليد الإيرانية الضاربة في المنطقة والعالم، أي قائد “فيلق القدس” قاسم سليماني، في ضربة جوية مطلع العام الحالي في بغداد.
رصد
تصور إسرائيلي لشروط الاتفاق الأميركي الإيراني المستقبلي
غير أن تلك “الجرائم” ليست الدافع الوحيد لطهران لتفضيل بايدن على منافسه الجمهوري الأكثر عداءً لها، بل ثمة عوامل أخرى أيضاً تلعب دورها في ذلك، أهمها عاملان. الأول هو أن بايدن شغل منصب نائب الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، الذي اختار النهج الدبلوماسي مع طهران، وكسر حواجز وأقام اتصالات معها، ليتوصل البلدان إلى اتفاق تاريخي لحلّ أبرز الملفات الخلافية بينهما، وهو الملف النووي. أما العامل الثاني، فهو أن بايدن من منتقدي سياسات ترامب تجاه طهران، وانسحاب الأخير من الاتفاق النووي، فضلاً عن حديثه حول احتمال عودته إلى الاتفاق في حال فوزه.
معسكرات ثلاثة
على الرغم من تلك المعطيات التي تجعل بايدن المرشح المفضّل لدى إيران، إلا أن هناك ثلاثة معسكرات في البلاد، تنقسم في الموقف من المرشحَين الأميركيين، وسياساتهما. المعسكر الأول هو معسكر المتشائمين جداً، من الأصوليين، والذي يرى أن لا فرق بين الرئيس الأميركي ومنافسه الديمقراطي، وأن سياساتهما واحدة. بالتالي، تؤكد هذه الجهة ضرورة التركيز على الداخل، وإيجاد حلول داخلية للمشاكل، وليس الرهان على الخارج ونتائج الانتخابات الأميركية. المعسكر الثاني، وهو المتفائلين جداً، الذي يرى في بايدن شخصية مختلفة عن ترامب، يراهن على الأول لاتّباع سياسة مختلفة عن الرئيس الأميركي، مع عودته إلى الاتفاق النووي وإلغاء العقوبات الأميركية. هذا المعسكر لديه أنصار بين الإصلاحيين، ولو أنهم قليلون. أما المعسكر الثالث الذي يمثله طيفٌ واسع مكوّن من محافظين معتدلين وإصلاحيين ومراقبين محايدين، فهو معسكر التفاؤل والتشاؤم النسبيين، أي أنه متفائل بأن يختلف الوضع نسبياً في حال فوز بايدن، وأن تخف الضغوط الأميركية على الجمهورية الإسلامية، لا سيما الاقتصادية منها، لكنه في الوقت نفسه، يبقى متشائماً بأن يظل جوهر السياسة الأميركية على حاله، مستبعداً تحقيق انفراجة كبيرة للأزمة. ويأتي هذا التقدير لكون الملفات العالقة في الصراع الإيراني الأميركي معقدة للغاية، ولا يمكن حلّها بين ليلة وضحاها. ومهما كانت توجهات بايدن، فلن يستطع تجاوز سقف محدد في إبداء الليونة تجاه طهران، على ضوء عدم إمكانية إنهاء الصراع المستمر معها منذ 40 عاماً.
ماذا لو فاز ترامب؟
لن يكون فوز الرئيس الأميركي بولاية ثانية خبراً ساراً لطهران، إذ يُتوقع أن يواصل تطبيق استراتيجيته المسماة بـ”الضغط الأقصى” عليها، ويزيد حدّتها، سواء من الناحية الاقتصادية عبر تشديد العقوبات، أو في الملفات الإقليمية في ساحات الاشتباك بالمنطقة، الأمر الذي من شأنه أن يزيد من الأزمات التي تواجهها البلاد، تحديداً في المجال الاقتصادي. هذا الأمر يرفع احتمال اشتعال شرارة الاحتجاجات المحلية الاقتصادية من جديد، في حال لم يتم إيجاد حل وانفراج للظروف المعيشية الخانقة التي يعيشها الإيرانيون، وذلك على غرار الاحتجاجات الواسعة التي شهدتها البلاد في نوفمبر/تشرين الثاني 2019. على الأقل، هذا ما ينشده ترامب لإرباك المشهد الداخلي في إيران وإجبار النظام على التفاوض معه، وفق ما يقول مراقبون. كما أن بقاء ترامب في البيت الأبيض، يقلص أكثر من ذي قبل فرص الدبلوماسية والتفاوض بين طهران وواشنطن.
تقول إيران إن ترامب ارتكب جرائم لم يقترفها بايدن، في تلميح إلى أن الأخير مفضل بالنسبة إليها
أما ترامب نفسه، ووفق تصريحاته الانتخابية خلال الشهرين الأخيرين، فيتوقع أن يأتي أول اتصال يتلقاه بعيد فوزه بولاية ثانية، من إيران، للتوصل إلى اتفاق شامل معها، أخفق فيه خلال السنوات الأربع الماضية، إذ لم تنجح استراتيجيته في إرغام صنّاع القرار الإيراني على الرضوخ لمطالبه للتوصل إلى اتفاق، على الرغم مما خلقته هذه الاستراتيجية من تحديات وصعوبات كبيرة أمام طهران في الداخل والخارج. وعلى الأغلب، فإن تصريحات ترامب هذه، تهدف للاستهلاك الانتخابي لتبرير عدم نجاحه في تحقيق اتفاقه المنشود خلال السنوات الماضية. لكن هذه التصريحات تكشف في الوقت ذاته، أنه ربما لن يجد ترامب في ولايته الثانية ما يمنعه من تجاوز سقف الضغوط عليه في ولايته الأولى، والتي تخللتها فصول تصعيدية غير مسبوقة، كادت أحيانا أن تفجر مواجهة عسكرية مباشرة بين البلدين، ولا سيما بعد عملية اغتيال سليماني. لكن مراقبين لا يستبعدون أن يتجه ترامب في حال فوزه، لتبني الخيار العسكري في مواجهة طهران.
انتصار بايدن
في حال فوز بايدن، فإن الرهان الإيراني عليه ليس كبيراً، لكنه سيكون نبأ ساراً في طهران. كما أن هذا الفوز وهزيمة ترامب من شأنهما أن يمنحا إيران مبرراً للقبول بالدخول في مفاوضات مع الولايات المتحدة، بعدما ظلّت ترفض إجراء أي عملية تفاوض مع واشنطن خلال السنوات الأربع الماضية من عهد ترامب، وذلك على أمل أن تحدث تصدعاً في جدار العقوبات الأميركية. ويقول مراقبون إن إيران في نهاية المطاف ستضطر إلى الدخول في المفاوضات مع الإدارة الأميركية المقبلة، حتى لو ترأسها ترامب، تحت ضغط الأزمة الاقتصادية المتصاعدة. لكن لا يخفى أن مثل هذه المفاوضات ستشكل إحراجاً كبيراً لأي حكومة إيرانية، إذا ما ظلّ الطرف المفاوض الآخر هو ذلك الرئيس الأميركي صاحب استراتيجية الضغط الأقصى. فضلاً عن أن هذا الأمر بحد ذاته يشكل تراجعاً، إن لم يكن رضوخاً للضغوط الأميركية، وتخلياً عن شروط التفاوض المتمثلة بإلغاء العقوبات والعودة إلى الاتفاق النووي. علماً بأن طهران ترفض حتى اليوم الدخول في أي تفاوض من دون تحقيق تلك الشروط.
ومن شأن فوز بايدن أن يربك حسابات المحافظين الانتخابية وخصوصاً المتشددين منهم، الذين صوّبوا جلّ جهدهم على الانتخابات الرئاسية المقبلة في إيران لانتزاعها من “المعتدلين” والإصلاحيين، بعد سيطرتهم الكاملة على البرلمان خلال انتخابات فبراير/شباط الماضي. وسيدفع وجود المرشح الديمقراطي على رأس السلطة في الولايات المتحدة، صنّاع القرار الإيراني إلى دفع شخصيات معتدلة إلى الواجهة في الانتخابات الرئاسية المقبلة، على الأغلب من المحافظين المعتدلين، لا يكون لديهم مواقف متشددة من خوض تجربة المفاوضات مجدداً مع واشنطن.
غير أن فوز بايدن، وحتى استئناف المفاوضات بين البلدين، لا يعني أن الطريق أصبح سالكاً لتحقيق انفراجة منشودة وتغيير المسار الذي اتخذه ترامب. صحيح أن المرشح الديمقراطي يحمل مواقف إيجابية تجاه الاتفاق النووي، ووجّه انتقادات لسياسات ترامب في التعامل مع الاتفاق، لكن فوزه لا يعني أن العودة إلى الاتفاق النووي سيكون تحصيل حاصل. وإيران من جهتها، تقول إن وقفها هذه التعهدات كان رداً على الانسحاب الأميركي من الاتفاق والعقوبات، مطالبة بالعودة إليه وإلغاء العقوبات أولاً، لتعود هي أيضاً إلى تنفيذ الاتفاق النووي بالكامل. وهنا على الأغلب ستشهد المرحلة المقبلة بعد فوز بايدن شداً وجذباً بين الطرفين حول من يقدم على الخطوة الأولى.
عموماً، سياسات الديمقراطيين تجاه الجمهورية الإسلامية الإيرانية لا تختلف كثيراً في جوهرها مع توجهات الجمهوريين، على الرغم من التفاوت والفروق في المفردات والأدبيات التي تعبّر عن هذه السياسات. وعليه، فإن الملفات المثارة مع إيران، وهي ثلاثة، النووي والصاروخي والإقليمي، هي أيضاً محل اهتمام وتركيز الحزب الديمقراطي. لذلك، على الأغلب سيسعى بايدن في حال فوزه إلى توظيف مسار ترامب واستراتيجيته للضغط على إيران لتحصيل تنازلات وتحقيق ما عجز عنه سلفه في الملفات الثلاثة. وعلاوة على ذلك، سيواجه بايدن أيضاً عقبات كبيرة في تجاوز إرث ترامب، سواء لجهة معارضة اللوبيات في الولايات المتحدة، أو لجهة أن العقوبات المعقدة والمكثفة التي فرضتها إدارة ترامب وشددتها أخيراً في محاولة لتحصين مستقبل استراتيجية الضغط الأقصى في حال فوز بايدن، لا يمكن تجاوزها بسهولة.