المصدر: النهار العربي
عمّار الجندي
إيرلندا تتضامن مع فلسطين.
A+A-عندما بدأت غزة تغرق بدماء أطفالها ونسائها… صاحت جمهورية إيرلندا بأعلى الصوت مندّدة بما يجري. وكانت هناك مسيرات حاشدة وعريضة وقّعها 600 أكاديمي، لنصرة غزة. لم يكن ذلك غريباً من بلاد وقفت مع فلسطين منذ نصف قرن، وقفة رجل واحد. واتفق اليسار واليمين، أحزاباً وشعباً، في هذه الدولة ذات الغالبية الكاثوليكية، في الدفاع عن فلسطين ربما كما لم يتفقوا على شيء. رئيس الوزراء زعيم حزب “فينا غيل” اليميني -الليبرالي، ليو فاراداكار، أوضح بعدما بدأت القنابل تنهمر على القطاع، أنّ “من حق إسرائيل أن تدافع عن نفسها وتلاحق “حماس” (…) لكن ليس من حقها أن ترتكب أخطاءً”. واعتبر أنّ القصف العنيف للمدنيين يشكّل “عقوبة جماعية”.
أما حزب “شين فين” اليساري، فسارع الى الانتصار لغزة، وهو الذي كان دائماً صديقاً وفياً لفلسطين. وجاء مؤتمره السنوي في 11 تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري، مناسبة للتشديد على دفاعه عن غزة ويشجب بأقسى العبارات الاحتلال وممارساته. ولم تكن العلامة الفارقة فيه ظهور السفيرة الفلسطينية جيلان وهبة عبد المجيد على المنصّة وهي تتوسط رئيسة الحزب ماري لو ماكدونالد ونائبتها رئيسة الحكومة المحلية في ايرلندا الشمالية، ميشال أونيل، بل الكوفية الفلسطينية التي طوقت أعناق قياديين وأعضاء في مقدّمتهم جيري آدم، الزعيم التاريخي للحزب الذي قاده عبر عواصف وبراكين النصف الثاني من القرن العشرين، وصولاً إلى السلام الذي كان أحد أبطاله الأساسيين ممن وقّعوا اتفاقية الجمعة العظيمة. يستعد “شين فين”، الذراع السياسية لمنظمة “الجيش الجمهوري الإيرلندي” العسكرية المنحلّة، لتسلّم السلطة في كل من إيرلندا الشمالية وجمهورية إيرلندا، وهو يمتع بالأغلبية البرلمانية في كليهما. وقد أفرد لفلسطين الحيز الأكبر في مؤتمره إلى جانب الإسكان، المسألة الأكثر إلحاحاً على الصعيد المحلي. ومن ناحيته، اعتبر الرئيس مايكل هيغنز، الشاعر والإعلامي السابق، أنّ إسرائيل كانت تنسف القواعد المتعارف عليها لحماية الأبرياء، بعدما أعلنت عن ذلك صراحةً من دون أن يرفّ لها جفن. وقال إنّها تقوم بـ”انتهاك القانون الدولي” ضدّ “شعب بريء” ما يقلّل من قيمة الضوابط التي صيغت في أعقاب الحرب العالمية للحفاظ على أرواح الأبرياء العزّل ويضعها في “حالة مزرية”. فردّت دانا إيرلتش، سفيرة إسرائيل في دبلن بشكل متوتر على الرئيس، لأنّها تعتبر أنّ بلادها “فوق القانون… منزّهة عن كل خطأ”، على حدّ تعبير مراقب إيرلندي. وإذ اتهمت هيغنز بإطلاق تصريحات تنمّ عن جهل بطبيعة العمليات الإسرائيلية، فقد أكّدت أنّ ثمة “مشاعر قوية” في بلادها بأنّ هناك “تحيّزاً في اللاوعي” الإيرلندي ضدّ إسرائيل. وذهبت آدي أوفير، وهي دبلوماسية إسرائيلية في دبلن، إلى أبعد بكثير، حين زعمت على وسائط التواصل الاجتماعي أنّ إيرلندا تموّل “حماس”. بطبيعة الحال كان هناك توبيخ رسمي، واضطرت أوفير أن تحذف منشورها المسيء. بيد أنّ الردّ الصاعق كان سيأتي بعد نحو أسبوعين من ماري لو ماكدونالد، التي طالبت بـ”إعادة السفيرة الإسرائيلية إلى بلادها”. واتخذت رئيسة “شين فين” من غزة محوراً لكلمتها في المؤتمر، مشدّدة على معاناة الفلسطينيين من الاحتلال والقمع والفصل العنصري و”انتهاكات لحقوق الإنسان يجب أن تخجل منها الإنسانية”. ووصفت غزة أنّها باتت “مقبرة للأطفال”. ورأت أنّ ما تفعله إسرائيل ليس دفاعاً عن النفس، بل هو “جرائم حرب بربرية، حاقدة وجبانة.” وحضّت حكومة دبلن على “أن تكون سبّاقة إلى إحالة إسرائيل إلى المحكمة الجنائية الدولية”. اللافت أنّ الدعم الرسمي والحزبي يتسمّ بالصراحة والموضوعية، ليس فقط في مدى التأييد، بل أيضاً في شراسة الانتقاد للهجمات التي شنّتها “حماس” ضدّ المدنيين، وقد شجبها الجميع بمن فيهم ماري لو ماكدونالد والرئيس هيغنز والحكومة. وبذلك أضفى هؤلاء مزيداً من الصدقية على الموقف الإيرلندي حصّنه ضدّ تهمة التحيّز. وبفضل ترفّع إيرلندا عن محاباة أصدقائها وخصومهم على حدّ سواء، صار بوسعها أن تلعب دوراً بنّاءً في معالجة الصراع الذي تعود أسبابه الجوهرية إلى الاحتلال، كما يؤكّد القياديون الإيرلنديون بصيغ تتباين في وضوحها. موقف جمهورية إيرلندا المميز حيال فلسطين صنعه التاريخ والتجارب التي يشتركان بها. فهما رزحتا تحت الاحتلال البريطاني وعانت كل منهما ظلم الاستعمار نفسه. لكن حينما بدأ الإيرلنديون يهتمون بفلسطين في أربعينات القرن الماضي، لم يكن ذلك بسبب أبنائها الأصليين العرب. فقد وجدوا وقتها في الوافدين اليهود أناساً مشرّدين ظلمتهم أوروبا ويستحقون وطناً لهم. وعزّز هذا التوجّه شخصيات يهودية إيرلندية منها جدّ الرئيس الحالي اسحق هيرتسوغ، رجل الدين الذي كان يُلقّب بـ”حاخام شين فين” لتفانيه كجمهوري ملتزم، فيما خاض ابنه حاييم والد اسحق ورئيس إسرائيل الأسبق، مباريات في الملاكمة باسم إيرلندا، قبل أن يهاجر إلى فلسطين للالتحاق بمنظمة “هاغاناه” الإرهابية. وفي سياق العلاقة بين إيرلندا ودولة إسرائيل الناشئة، استلهم منها بعض أقطاب الحركة الصهيونية أساليبهم في ممارسة العنف ضدّ العرب. هكذا ذكر مناحيم بيغن، رئيس الوزراء الأسبق، في مذكراته أنّه استعان في مرحلته الإرهابية كقيادي في عصابة “إرغون” بأفكار وتجارب القيادي الجمهوري مايكل كولينز، الذي كان من نجوم “الجيش الجمهوري الأيرلندي”. إلّا أنّ حرب 5 حزيران (يونيو) 1967 التي شهدت تحول “الضحية” إلى قوة ضاربة بوسعها إنزال هزيمة ساحقة بثلاثة جيوش واحتلال المزيد من الأراضي، كانت نقطة تحوّل جذرية بالنسبة لإيرلندا. ثم جاء اجتياح بيروت 1982 ليزيد من تحفّظ إيرلندا على إسرائيل. وصارت بمثابة سلاح حارب به الوحدويون البروتستانت الجمهوريين الكاثوليك في إيرلندا الشمالية. فالجمهوريون أيّدوا فلسطين بقوة بينما صار الوحدويون أكثر صهيونية من الصهاينة! لكن هذا كان في إيرلندا الشمالية، أما في جمهورية إيرلندا حيث اليد الطولى للأغلبية الجمهورية، فالقصة كانت مختلفة. في 1980، كانت دبلن أول بلد عضو في الاتحاد الأوروبي ينادي بالاعتراف بدولة فلسطين. ومعروف أنّ مسؤولين رفيعي المستوى في الخارجية الإيرلندية، ظلّوا على تواصل بياسر عرفات بين 1999 و2003، الذي كان يعيش حينذاك واحدة من أصعب مراحل حياته. الأمثلة كثيرة على تأييد الإيرلنديين لفلسطين وقضيتها. لكن ماذا جنته من ذلك؟ التعاطف والمشاعر الصادقة والتضامن الجاد، كلها مفيدة للمعنويات. لكن ماذا تستطيع دولة من الوزن السياسي والاقتصادي المتوسط كإيرلندا أن تفعل لفلسطين على المسرح الدولي؟ وحتى في الداخل، لم تنجح ماري لو ماكدونال زعيمة المعارضة في طرد السفيرة الإسرائيلية أو في مطالبة “المحكمة الجنائية الدولية” بفتح تحقيق في أحداث غزة. من الواضح أنّ إنصاف فلسطين أكبر بكثير من أن تحقّقه دولة لوحدها، مهما كانت صادقة وشجاعة. هكذا يبقى الموقف الإيرلندي موضع ترحيب كبير… ولكن؟