“ابتسامة بالإكراه”: حين نبيع مشاعرنا من أجل لقمة العيش

1

قياتى عاشور

 

تخيل أنك تمر بأسوأ يوم في حياتك؛ مشاكل أو أزمات، أو حتى مجرد صداع لا يحتمل. ومع ذلك، مطلوب منك أن ترفع سماعة الهاتف، وترد على شخص غاضب يصرخ في أذنك، بصوت هادئ ونبرة ودودة، بل وأن تختم المكالمة بعبارة: “سعداء بخدمتك يا فندم”.

هذا المشهد هو الواقع اليومي لملايين الشباب المصريين العاملين في قطاع خدمة العملاء، “الكول سنتر”، والمبيعات. نحن نرى هؤلاء الشباب يومياً، لكننا نادراً ما نرى الثمن الخفي الذي يدفعونه. نحن نعتقد أنهم يبيعون “وقتهم” أو “مجهودهم الذهني”، لكن علم الاجتماع يخبرنا بحقيقة أقسى: إنهم يبيعون “مشاعرهم”.

هذا ما أطلقت عليه عالمة الاجتماع “أرلي هوتشايلد” مصطلح “العمل العاطفي”. فكما يجهد عامل البناء عضلاته لرفع الطوب، يجهد موظف الخدمة أعصابه ومشاعره لـ “تصنيع” الابتسامة والهدوء. هو مطالب بأن يفصل “ما يشعر به حقاً” عما “يجب أن يظهره للعميل”. عليه أن يبتسم في وجه من يهينه، وأن يعتذر عن خطأ لم يرتكبه، وأن يمتص غضب الجميع بينما يغلي هو من الداخل.

في مصر، ومع توسع قطاع الخدمات، أصبح هذا “العمل العاطفي” شرطاً أساسياً للتوظيف. نقرأ في إعلانات الوظائف: “مطلوب شباب لبق، صبور، وقادر على العمل تحت ضغط”. والترجمة الحقيقية لهذه الشروط هي: “مطلوب شخص قادر على كبت مشاعره الحقيقية وارتداء قناع السعادة لمدة 8 ساعات يومياً”.

المشكلة ليست في العمل ذاته، بل في التكلفة النفسية لهذا “التزييف” المستمر. عندما يقضي الإنسان نصف يومه يمثل مشاعر غير حقيقية، فإنه يصاب بـ “اغتراب” عن ذاته. يصبح غير قادر على تمييز مشاعره الحقيقية، ويعود لبيته “مستنزفاً” تماماً، ليس جسدياً، بل روحياً. تجده صامتاً، غير قادر على التفاعل مع أهله أو أصدقائه، لأنه ببساطة استنفد كل رصيده من الكلام والمشاعر في “الشيفت”.

نحن كمجتمع نساهم في هذه المأساة عندما نتبنى شعار “الزبون دائماً على حق” بشكل متطرف، وننسى أن الموظف الجالس أمامنا أو على الطرف الآخر من الهاتف هو إنسان له كرامة وطاقة محدودة. إننا نمارس عليهم نوعاً من “التنمر المقنع” لأننا نعلم أنهم لا يملكون رفاهية الرد، خوفاً على “تارجت” الشهر أو تقييم الجودة.

إن الوعي بمفهوم “العمل العاطفي” يجب أن يغير نظرتنا لهؤلاء الشباب. الابتسامة التي يقابلوننا بها هي “جزء من عملهم” وليست دعوة لاستباحتهم. رفقاً بهم، فهم يبيعوننا خدمة، ولا يبيعوننا كرامتهم أو مشاعرهم. وفي المرة القادمة التي تتحدث فيها مع موظف خدمة عملاء، تذكر أن خلف هذا الصوت “الآلي” الهادئ، إنسان يحاول جاهداً أن ينجو بيومه دون أن يفقد عقله.

التعليقات معطلة.