نائب السفير المصري في الإمارات محمد محمود
تطلعاً لاستقرار إقليمي مستدام، قامت كل من حكومة الكونغو الديمقراطية وحركة M23 بتوقيع إعلان مبادئ ينص على وقف دائم لإطلاق النار، والتعهد بالتوقف عن خطاب الكراهية وأي مساعي للاستيلاء على أراضي جديدة بالقوة.
وجاء ذلك التوقيع بوساطة قطرية، بحضور المبعوث الأمريكي مسعد بولس، ويمثل الاتفاق الجديد إضافة مهمة لوساطة الولايات المتحدة التي أسفرت في يونيو (حزيران) الماضي عن توقيع اتفاق سلام – منفصل – بين الكونغو الديمقراطية ورواندا، والذي نص على فك الارتباط ونزع السلاح والدمج المشروط للجماعات المسلحة.
ومن المنتظر أن يستقبل الرئيس الأمريكي كلاً من رئيس الكونغو الديمقراطية ورواندا في البيت الأبيض لدفع السلام بين البلدين، إذ ترغب واشنطن في تعظيم المنافع الاقتصادية لها والاستثمارات الأمريكية في مجالات الطاقة والتعدين بتلك المنطقة الاستراتيجية من القارة السمراء.
بصفة عامة يرتكز المحرك الرئيسي لاهتمام القوى الدولية بمنطقة البحيرات العظمي على الثروات الطبيعية المتوفرة في دول ذلك الإقليم وفي مقدمتها الكونغو الديمقراطية والتي تستحوذ على 73% من الإنتاج العالمي للكوبالت، وكذلك على 67% من إنتاج معدن الكولتان عالمياً (يستخدم في صناعة المفاعلات النووية).
وتأتي الكونغو في المركز الرابع عالمياً في إنتاج الماس الصناعي، ولديها كميات كبيرة من رواسب الليثيوم ونحاس عالي الجودة، وتنتج الكونغو الديمقراطية وزامبيا 3 مليون طن سنوياً من النحاس والكوبلت، وفي ضوء ما تحمله جهود الوساطة في شرق الكونغو من مؤشرات حول انخراط واشنطن في جهود تسوية النزاعات بالقارة الافريقية التي تتطلع شعوبها إلى مشروعات تنموية جادة والرخاء، فإنه من المفيد التنويه بأن الصراع في الكونغو الديمقراطية قد اندلع في 1998، ومنذ ذلك الحين قتل ما يقرب من 6 مليون شخص، بينما نزح 7 مليون داخلياً، وهناك نحو 100 جماعة مسلحة تتنافس على موطئ قدم لها في شرق الكونغو الغني بالمعادن، وتُقدر الثورة التعدينية في الكونغو الديمقراطية بنحو ٢٤ تريليون دولار
وفي حين تتطلع شعوب المنطقة إلى خلو البحيرات العظمى من التطرف العرقي والجماعات المسلحة، فإن ممر لوبيتو – العابر لعدة دول أفريقية- يثير شهية القوى الدولية لتعزيز حضورها التعديني واللوجيستي في دول المنطقة، أخذاً في الاعتبار أن الرئيس الأمريكي السابق بايدن، أعلن في ديسمبر (كانون الأول) الماضي عن دعم إضافي بقيمة 560 مليون دولار ليبلغ إجمالي الدعم المقدم لمشروع ممر لوبيتو نحو 4 مليار دولار، علماً بأن ممر لوبيتو يضم مشروع ضخم للسكك الحديدية تربط الكونغو وزامبيا وأنغولا ويستخدم في نقل المواد الخام الاستراتيجية (النحاس والكوبالت) وتصديرها عبر الميناء.
ومن أبرز محطات التنافس الدولي توقيع روسيا مع جمهورية الكونغو على اتفاقية مؤخراً لبناء خط أنابيب يمتد من ميناء “بوانت نوار” إلى العاصمة “برازافيل”، ويلاحظ أن القمة الأمريكية الأفريقية السابعة عشر قد استضافتها أنغولا في 24 يونيو (حزيران) الماضي، وركزت على بحث ملفات حيوية كالمعادن والطاقة والبني التحتية.
بجانب ما سبق، فإن العديد من القوى الدولية والقوى الوسطى الصاعدة تُدرك أهمية القارة الأفريقية كمركز واعد للازدهار الاقتصادي، وتتسم الفترة الحالية بتوظيف الدبلوماسية الاقتصادية وإبرام صفقات تجارية مع دول القارة الأفريقية التي تُعد إحدى أهم مناطق النمو الاقتصادي المستقبلي حول العالم، ولعل الاتفاق الأخير للكونغو الديمقراطية مع حركة M23 وقبله مع الحكومة الرواندية يمثل إنفراجة في العلاقات الثنائية بين كيجالي وكينشاسا والتي تدهورت مؤخراً، وكان من أبرز ملامح ذلك التدهور إعلان رواندا في 7 يونيو الماضي الانسحاب من الجماعة الاقتصادية لدول وسط إفريقيا “ECCAS”، نظراً لتمديد رئاسة غينيا الاستوائية للمجموعة بدلاً من نقلها لرواندا نتيجة لاعتراض الكونغو الديمقراطية وبوروندي، علماً بأن دول “إيكاس” تشكل 20,4% من مساحة إفريقيا، وتُقدر احتياطات النفط لدول المجموعة بنحو 31,3 مليار برميل، أي ما يقرب من 28% من إجمالي احتياطات إفريقيا، ومن أحدث الاكتشافات ما أعلنته أنغولا الأسبوع الماضي عن اكتشاف أول بئر استكشافية للغاز في تاريخها بحوض الكونغو (تريليون قدم مكعب) وهو ما يمثل تحولاً مهماً في خريطة استثمارات الطاقة في إقليم وسط إفريقيا، وزار الرئيس الأمريكي بايدن أنغولا في ديسمبر 2024، أخذاً في الاعتبار أن أقاليم القارة الأفريقية يُنظر إليها على أنها ضمن حلقات التنافس الأمريكي – الصيني في دوائر جغرافية مختلفة، وكانت بكين قد دشنت في 2024 غرفة التجارة الصينية الأفريقية (مقرها أديس أبابا)، وتتجاوز حجم الاستثمارات الصينية في الدول الأفريقية 40 مليار دولار.
وبالتزامن مع التقارب الحذر بين كينشاسا وكيجالي، ومع زيادة التوجه العالمي نحو الغاز كمصدر أنظف للطاقة، وكذلك زيادة الاهتمام بالثروات التعدينية في القارة الافريقية، وبالتحديد في منطقة البحيرات العظمي وإقليم وسط أفريقيا، تمكنت جمهورية الكونغو من التحول، في فبراير (شباط) 2024، إلى دولة مُصدرة للغاز الطبيعي المُسال باحتياطات تُقدر بنحو 283 مليار متر مكعب، وهو ما يزيد الاهتمام الدولي بأمن الطاقة ومستقبل التنمية الاقتصادية في دول وسط إفريقيا، وما إلى ذلك من شراكات محتملة في القطاعات التعدينية وشراكات في قطاعات حيوية أخرى مع التذكير بأن الرئيس الصيني قد تعهد العام الماضي بتقديم دعم مالي لأفريقيا بقيمة 51 مليار دولار، وكذلك قامت بكين بإعفاء الدول الأفريقية الأقل نمواً من الرسوم الجمركية وهو ما يؤشر إلى تنامي التبادل التجاري بين الجانبين.
وبالتالي، فإن التحركات الأمريكية السياسية لا تقتصر فقط على إقليم البحيرات العظمي بهدف كسر الهيمنة الصينية على قطاع التعدين في دول الإقليم (تسيطر الشركات الصينية على 70% من قطاع التعدين في الكونغو الديمقراطية)، إذ تقدر الأوساط الدبلوماسية والإعلامية أن اللقاء الذي استضافه الرئيس ترامب مؤخراً لقادة خمس دول أفريقية (موريتانيا، ليبيريا، السنغال، الغابون، غينيا بيساو) يتسق مع المنافسة الجيوسياسية المتنامية مع بكين وموسكو في أفريقيا، وخاصةً في قطاعات المعادن الحيوية والطاقة، وفي تقديرات البعض جاء ذلك اللقاء في البيت الأبيض ليحمل أبعاداً متنوعة، وإن كان أبرزها سعى واشنطن لتوظيف ملف التجارة، بدلاً من المساعدات، كأداة لتعزيز النفوذ في الدول الأفريقية.
وبينما تحل علينا أخبار توقيع الاتفاق بين كينشاسا وكيجالي وتطلعات متنامية بأن يسهم في مردود اقتصادي تنموي على المجتمعات المحلية التي عانت لعقود، أُعلِن عن توقيع الشركة الأمريكية “كوبولد ميتالز” اتفاق مع الحكومة الكونغولية لاستكشاف وتطوير الموارد المعدنية الحيوية، وتبلغ قيمة الاستثمار مليار دولار لتوظيف التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي في تسريع عمليات الاستكشاف!