اتفاق سلام جوبا… ثقافة الكهوف

1

“نحتاج إلى أن نخضع مواده المسرفة وحشوه لتحرير من فوق حيثيات قوية تقود إلى وعي يستنقذه هو نفسه من شروره”

عبد الله علي إبراهيم  أكاديمي وصحافي  

يكاد اتفاق جوبا يستصرخنا لما نعمله حياله وهو تخسيسه (أ ف ب)

سيدخل اتفاق #سلام_جوبا (أكتوبر/ تشرين الأول 2020) تاريخ عهودنا في #السودان كالاتفاق السياسي المعيب الأكبر. ولم يقتصر عيبه على مفهومه فحسب بل ضرب صياغته أيضاً. فجاء إليه، وهو الذي انعقد لتسوية حرب العقدين بين الحكومة السودانية ومسلحي #دارفور، حلفاء سياسيون للمسلحين لم يرفع أي منهم السلاح أبداً. واختلقوا لهم في الاتفاق ما عرف بـ”المسارات” لرد مظلومية مناطقهم التي يمثلونها. وبلغ عيب الاتفاق حداً ساخراً لا تنتظره في عهد سلام يحقن الدماء مثل القول “تلتزم الإدارة الأهلية في الشرق (شرق السودان)حث المواطنين وتشجيعهم على التعليم” (مسار الشرق 23). وهذا مما قد تستكثره حتى على برنامج انتخابي لمرشح لانتخابات مجلس محلي.
أما أكثر العيب، فكان مما جاء للاتفاق ممن عارضوه بصورة أخرى. فليس من عادة السياسة عند كثير منا العكوف على نص العهود مثل اتفاق سلام جوبا، والإحاطة به، وتمييز حقه من باطله عن بينة، قبولاً ورفضاً. ففي الحالين تغلب سياسة الولاء أو المعارضة على ما عداها في تقييم العهود وتقويمها. فإذا عارضت، حللت لك المعارضة ما لا يحل في الحكم على نص العهد جزافاً. وتعلق عندنا في هذا المعنى عبارة قديمة منسوبة لإسماعيل الأزهري زعيم الحركة الوطنية وأول رئيس وزراء سوداني قال فيها عن مقاطعته لجمعية نيابية من صنع الإنجليز، “سنقاطعها ولو جاءت مبرأة من كل عيب”.
فتجد الحزب الشيوعي الذي كان أول من اعترض على الاتفاق في دورة لجنته المركزية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، أخذ من الاتفاق ما يعزز معارضته للحكومة الانتقالية التي كانت طرفاً في الاتفاق. فأصاب في نقده للمادة التي تقضي بأن يعلو الاتفاق على الوثيقة الدستورية للثورة (أغسطس/ آب 2019) التي نشأ بموجبها متى تعارض مع جانب منها. ولكنه لم يميز الوثيقة، كداعية إلى العلمانية، بأنها الأولى في فضائنا الدستوري التي قضت بفصل الدين عن الدولة.
وقدم الحزب الشيوعي، من جهة أخرى، مشروعاً بديلاً للاتفاق سماه “الحل الجذري” لم يخرج عما ورد فيه. فحتى تسليم المطلوبين من قادة النظام القديم إلى المحكمة الجنائية الذي نادى به الحزب في “حله الجذري” كان مما خصص له “اتفاق جوبا” فصلاً مستقلاً بعنوان “المحكمة الجنائية الدولية”. وطالب الحزب في إطار حله الجذري بتعمير القرى لعودة النازحين واللاجئين إليها ورد أراضيهم التي نزعها غاصبون خلال الحرب. وهي مسائل، إن ظنها مما أهمله الاتفاق، نجده طرقها بعد فصل العدالة الانتقالية والتعويضات وجبر الضرر للمتأثرين بالحرب من نازحين ولاجئين وتنمية قطاع الرحل واستعادة الأرض المغتصبة لأهلها. 
لم تكن عيوب اتفاق جوبا خافية من يومها الأول على أحد. وما غضت الحكومة الانتقالية الطرف عنها إلا عشماً في خبر سعيد بأي صورة عن السلام لتشيع التفاؤل في زمن عصيب. فقرر رئيس المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير إبراهيم الشيخ باكراً أن فشلاً أحدق بالمفاوضات. وقال باستحالة تحقيق السلام بالشكل الذي رآه في جوبا التي عاد منها غاضباً إلى الخرطوم. وكي لا يبدو إبراهيم كمن يمطر على الخبر السعيد المنتظر عن الاتفاق، قال إن ذلك رأيه الشخصي ولا علاقة له بقوى الحرية والتغيير إلا أنه لن يتحمل مسؤولية الآخرين. وأثار بشكل خاص كلفة السلام في اتفاق أسرف في خلق صناديق الإعمار والمفوضيات من دون حاضنة دولية واحدة دقت على صدرها لتمويل أي من بنود الاتفاق، فانطبق على الاتفاق بذلك التبذير الذي حذر منه توماس جيفرسون بقوله “إحصل على المال قبل أن تنفقه”. وجرى التوقيع على الاتفاق واحتفلت به الحكومة الانتقالية وهي تعرف أنه معيب ومستحيل التنفيذ.


وكانت الـ”لا المبدئية” من معارضي الاتفاق الأشداء، باباً كبيراً لتعييبه. فلا نعرف من عارض “مسار الشرق” في الاتفاق مثل رئيس مجلس نظارات الشرق وعمودياته المستقلة محمد الأمين ترك. فعبأ أهله في الشرق بقوة لإلغائه بقطع الطرق من ميناء بورتسودان إلى بقية البلاد. وهو “التتريس” الذي طعن في الحكومة الانتقالية طعناً أغرى العسكريين بالانقلاب عليها في 25 أكتوبر 2021. ومما يثير الاستغراب، والحال هذه، أن يعود ترك الذي صار نائباً لرئيس “قوى الحرية والتغيير- الكتلة الديمقراطية” من ورشة انعقدت في القاهرة منذ أيام لمعارضي الاتفاق الإطاري بين قوى الحرية والتغيير والعسكريين (ديسمبر 2022) بنفس نص مسار الشرق في اتفاق جوبا. فتمسكت “ورشة القاهرة” بتنفيذ الاتفاق بما هو عليه على أن ينعقد مؤتمر لاحق لأهل شرق السودان لمناقشة مسألة تهميشهم معاً. وما جاء به ترك من القاهرة هو ما جاء في المواد 34 و36 من “مسار الشرق” من وثيقة جوبا، حذو النعل بالنعل. ولا نعتقد بأن مثل هذه التحولات الجسيمة لقائد مرموق من معارضة الاتفاق بشراسة إلى قبوله مذعناً، ستكون مما يرفع من عوار الاتفاق. فلن يظن من وقف معه في أيام ابتلاء معارضة، الاتفاق خيراً لا به ولا بالاتفاق وهم يحدسون عما وراء الأكمة.
لا خلاف أن اتفاق جوبا حقيقة وقعت لنا عن حوكمة لم نحسنها. ولا ينقص هذا من عيبه مثقال خردلة. غير أن مطلب إلغائه هروب إلى الأمام بينما أن مطلب تنفيذه بحذافيره كما تدعو الحركات المسلحة هروب إلى الوراء.
ونحتاج إلى أن نحتفظ بالاتفاق عهداً بأن نخضع مواده المسرفة وحشوه لتحرير من فوق حيثيات قوية تقود إلى وعي يستنقذه هو نفسه من شروره.
وأول هذه الحيثيات اقتصار الاتفاق على حملة السلاح حيث هم في أقاليمهم. وعليه صح شطب اتفاقات المسارات منه جملة وتفصيلاً في انتظار مؤتمر دستوري يكفل لأقاليم السودان التي لم تتأثر بالحرب أن تدلي بدلوها عن هامشيتها.  
ونحتاج إلى تحديد المصطلح في تعريف المنتفع من إجراءات جبر الضرر أو التعويض. ونبدأ بتعريف من هي الدارفورية؟ للتمتع بما ورد في الاتفاق من تمييز إيجابي. فليس في تقاليدنا الإدارية أعراف لتعيين منشأ الفرد بعد شهادة الميلاد مثل موقع تسجيل الواحد منا للانتخابات مثلاً. فاتفاق دارفور مثلاً حجز لطلابها 15 في المئة في الكليات العلمية والطبية والهندسية في كل جامعات السودان بعد حجز 50 في المئة لهم في الجامعات بدارفور. فما هو تعريف الدارفوري (ة) القاطع الذي يمنع التبذل ويحفظ الحق لمستحقه؟ فليس كل دارفوري (ة) تأثر بالحرب. فكثير منهم عاش في أقاليم لم تطاولها الحرب أبداً.
ومما نحتاج إلى التدقيق فيه أيضاً، هل هذا الاتفاق مع الحكومة الانتقالية أم أنه مع الحكومة السودانية على الإطلاق؟ إذ جاء في اتفاق دارفور أن يتمتع الطالب منها بإعفاء من الرسوم وغيرها لمدة 10 سنوات تبدأ من توقيع الاتفاق. وهذا بالطبع عهد متعدٍ لحكومات ما بعد الانتقالية التي في الغيب. وقد يمتد الإعفاء إلى 14 عاماً وأكثر لأن الطالب الذي دخل الجامعة في السنة الـ10، سنة نهاية العهد، سيظل يتمتع بالإعفاء حتى تخرجه.
ونحتاج إلى ضبط المعادلة بين مركز الوطن ورد مظلومية الهامش حول التوزيع العاجل للثروة. فبدا من “اتفاق جوبا” غموض من جهة، ما لمؤسسات الحكومة الاتحادية وما للمفوضيات التي أراد بها الاتفاق ضبط موارد الدولة. فستقوم بالقوامة على المال العام، بمقتضى الاتفاق، هيئتان، الهيئة الأولى هي “الصندوق القومي للعائدات” (المادة 22 من الاتفاق)، وستودَع فيه “كافة الإيرادات والعائدات المالية القومية وينظم بالقانون ويكون هو المؤسسة الوحيدة لإيداع العائدات”. أما الهيئة الثانية، فهي “المفوضية القومية لقسمة وتخصيص ومراقبة الموارد والإيرادات المالية” (المادة 23). فلا الصندوق القومي للعائدات ولا المفوضية بجديدين على مثل هذه الاتفاقات القومية، إذ سبقهما اتفاق السلام الشامل بين “حكومة الإنقاذ” و”الحركة الشعبية” عام 2005. ولكنه اختلف مع اتفاق جوبا في أمر مهم، هو أن اتفاق السلام الشامل منح وزارة المالية الاتحادية إدارة الصندوق، بينما صمت اتفاق جوبا عن ذكر وزارة المالية. كما صمت عن دور المؤسسة التشريعية في تخصيص الموارد ومراقبة صرفها، في حين لم يصمت اتفاق السلام الشامل. وهذا الصمت من جانب اتفاق جوبا عن ذكر وزارة المالية الاتحادية والمجلس التشريعي الاتحادي غريب، نظراً إلى أنه يكاد ينقل ترتيباته إلى موارد المال العام وإنفاقه حرفياً من اتفاق السلام الشامل.
ومن بين ما احتاج الاتفاق إلى ضبطه، العلاقة بين الديمقراطية والمحاصصة. فلن يخفى حتى على القارئ المتعجل للاتفاق الحشو فيه حتى شمل تعيين ممثلين عن الحركات المسلحة الموقعة على الاتفاق في إدارة العاصمة القومية. وهكذا لم تعتبر أطراف الاتفاق أن للعاصمة أهلاً من سائر السودان ولن يقبلوا بحكومة عليهم تخضع للمساءلة أمام غيرهم.
كما صح أن تتنازل الحركات طوعاً عن نسبها المبالغ فيها في محاصصة السلطة، فتخضع المناصب التي حظيت بها بالاتفاق للانتخابات العامة التي تطالب هي نفسها بقيامها على النطاق الوطني. فجاء في مسار دارفور أن لمكونات المسار 40 في المئة وللحكومة الانتقالية 30 في المئة وللحركات الأخرى الموقعة 10 في المئة ولأصحاب المصلحة 20 في المئة. ولا يعرف المرء من هم “أصحاب المصلحة” وكيف سيجري تمثيلهم في أروقة السلطة. وقد يتساءل المرء ما الذي سيغري “جيش تحرير السودان-عبدالواحد” بركوب قطار السلام بعد تمنعه وهو يرى أن أطراف الاتفاق غنمت حصص الدولة ولم تترك فضلة لوافد. بل لا أعرف كيف ستأتي “الحركة الشعبية جناح الحلو” إلى السلام وقد أعطى الاتفاق نيابة الوالي على جبال النوبة إلى الحركة الشعبية -عقار التي لا وجود لها في تلك الجبال المحررة.
يكاد اتفاق جوبا يستصرخنا لما نعمله حياله وهو تخسيسه، فأكثره ورم منشأه في ثقافة الكهوف التي قال مارك ليلا، المفكر الأميركي البارز، “إنها مما تنطوي فيها الهويات الأصاغر” مثل دارفور هرباً من الوطن الكبير الذي أذاقها التهميش. وربما كان إلغاء الاتفاق هو أقصر الطرق لنثبتهم على قناعة بأن الكهف هو مأواهم الأخير في الوطن.

التعليقات معطلة.