اتفاق فرنسي – ألماني: المسؤولية والرشد في أزمنة صعبة

1

 
محمد بدرالدين زايد
 
 
ربما كان الحدث الأبرز في الشهور الأخيرة هو توقيع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إتفاق الشراكة الجديد، الذي اعتبر على الفور استكمالاً لمعاهدة الأليزيه عام 1963 بين الزعيمين الفرنسي شارل ديغول والألماني كونراد أديناور وهو الاتفاق الذي شكل محور التطورات التاريخية التالية ليس فقط على صعيد علاقات البلدين، وإنما الطفرة الحقيقية لمسيرة الوحدة الأوروبية، التي كان التفاهم الفرنسي الألماني قلبه ومحوره الرئيس منذ البداية. وهذا الاتفاق الجديد الذي اختزلته بعض وسائل الإعلام بأنه سعي نحو جيش موحد، يتضمن في الحقيقة تعميق الشراكة والتحالف بين البلدين في كل المجالات، بخاصة الديبلوماسية والدفاعية ومن بينها الدفاع عن أراضي البلدين ووصفها بأنها مسئولية مشتركة نحوالسعي لتطابق السياسات الخارجية والدفاعية والتعاون في برامج عسكرية كبرى تم تحديد عدد منها كمشروعات الدبابات والطائرات المقاتلة، كما تضمن الاتفاق تطوراً مهماً مثل السعي للوصول إلى اقتراب مشترك في مسألة صادرات السلاح اعترافاً بأنه كان للبلدين رؤى متناقضة بهذا الصدد، كما شملت تأسيس مجلس أمني مشترك، كما تضمن الأتفاق أولوية للديبلوماسية المشتركة للبلدين للوصول إلى تحقيق عضوية دائمة لألمانيا في مجلس الأمن.
 
 
وكما هو متوقع تم استقبال هذا الحدث الكبير بقدر كبير من الرفض من كل من أقصى اليمين وأقصى اليسار في البلدين، فتمادت زعيمة اليمين المتطرف الفرنسية ماري لوبن إلى حد القول بأن الاتفاق يعني تقاسم فرنسا لعضويتها الدائمة في مجلس الأمن مع ألمانيا، كما ندد زعيم فرنسا الأبية جان لوك ميلنشون بما سماه تراجع سيادتنا ورأى أن هدف المعاهدة ليس التقدم الاجتماعي أو الانتقال البيئي بل التنافسية مع توفير قدر من الخدمات العامة والاستثمارات وتراجع الأجور ومطاردة العاطلين عن العمل، كما لم تسلم ميركل من انتقادات المعارضة المتشددة من الكتلة البديلة التي سخر زعيمها من ماكرون كونه لا يستطيع ضبط المظاهرات والاضطرابات ضده، وبصرف النظر عن هذه الانتقادات التي يغلب عليها المزايدات والشعبوية، فإن هناك حقيقة لا أظن أنها تنتقص من الاتفاقية وهي أن ميركل ذاهبة وأن ماكرون يواجه تحديات صعبة لم تتوقف حتى الآن داخلياً، كما يواجه الإثنان معاً تمردات جديدة ضد قيادتهما المشتركة للاتحاد الأوروبى، خصوصاً من إيطاليا والمجر وبولندا، وإيطاليا تحديداً دخلت في تعقيدات شديدة فيما يتعلق بالتنافس مع فرنسا في الساحتين الإفريقية ارتباطاً بمسألة قضايا المهاجرين، وكذا فيما يتعلق بالتنافس على النفوذ والنفط في ليبيا، على أن كل هذا لا يغير من عدد من الدلالات التي تضفي على هذا الاتفاق أهمية كبيرة.
 
فأولاً الاتفاق يعني استجابة فرنسية ألمانية للتحدي الكبير الذي يمثله ترامب، الذي أحرج البلدين إلى حد الإهانة ومعهما الاتحاد الأوروبي مطالباً إياه بتحمل المسؤولية الدفاعية، وابتزهما بشدة لتغيير أنصبتهما في حلف الأطلنطي – وهي مطالبة بالمناسبة مقبولة بل ومنطقية من الجانب الأميركي، ومن ثم هي استجابة منطقية، وتعني أن الطرفين اللذين شكلا قوة الدفع في الاتحاد الأوروبي تاريخياً وجدا أن الوقت مناسب بل وضرورة للتحرك للأمام، وفي الواقع أن هذا يحدث الآن في عالم أكثر فوضوية واضطراباً ولكنه أقل خطورة من زمن الحرب الباردة، فلا أظن شخصياً أن البلدين اللذين يجمعهما علاقات وتفاعلات وثيقة مع روسيا يشعران بتهديد مشابه لما كان زمن الحرب الباردة، ومن ثم يتركان التطور الطبيعي لهذه العملية التاريخية تتم بهدوء حتى لو بقدر من البطء، المهم الوصول إلى تأكيد رسالة واضحة للعالم، أن الدولتين يتحركان نحو شراكة دفاعية أكثر تطوراً، تحتمل انضمام أطراف أوروبية أخرى، وتؤكد مكانتهما كقوى عظمى أقل اعتماداً على الآخرين حتى لو كان الحليف الأميركي التاريخي، وفي الواقع أن ماكرون الذي وصل إلى الحكم نجاحاً ضد التيارات اليمينية المعادية للاتحاد الأوروبي، راهن منذ بداية حكمه على استراتيجية العلاقات مع ألمانيا، وكانت محطة زيارته الخارجية الأولى بعد توليه مهام الرئاسة، وهكذا فبصرف النظر عن تحديات ماكرون الداخلية والخارجية، فإن الرجل اختار أن يواجه هذه التحديات من قلب الفلسفة التي تبناها للوصول إلى الحكم، رافضاً الاستجابة أو التجاوب مع مغازلات ومزايدات اليمين المتطرف.
 
وتبقى الدلالة الكبرى لهذا الحدث فيما يتعلق بارتباطها بالمناخ الذي يواجه العالم كله، وليس البلدين، والذي وصل ذروته فيما يمكن تسميته الظاهرة الترامبية، وهنا أكرر ما أحرص على توضيحه في مناسبات عدة من أن ترامب ليس حالة عشوائية ومحض انفعالية، بل أؤكد دوماً أن الرجل يمثل رؤية سياسية متكاملة، وأن هذه الرؤية اليمينية الضيقة تستند فلسفتها بشكل عميق إلى جذور في الثقافة السياسية الأميركية، وأنه بالمثل هناك جذور للأفكار اليمينية والمتشددة في الثقافات الأوروبية وإلا من أين ظهرت النازية والفاشية في السابق، قد تزيد بسبب عدوى وانتشار للأفكار أو قد تتراجع بعض الوقت، كما أن هناك تحولات ضخمة في المجتمعات الغربية بسبب سياسات الهجرة واللجوء أدت إلى هذه التحولات العميقة ما يستفز بالضرورة هذه الجوانب في الثقافات الغربية عموماً، وتميل تعبيرات هذه الأفكار إلى التشدد والتطرف وردود الفعل الحادة، ولكن من الخطأ أيضاً أن نتصور أن هذه الثقافات الغربية لا تتضمن جوانب أخرى عديدة إيجابية من الحرية والمساواة والتفكير الرشيد العقلاني المبني على حسابات دقيقة، هنا أهمية رد الفعل الفرنسي – الألماني الباحث عن مخرج من ضغوط اليمين المتشدد في الداخل والخارج بمزيد من المسؤولية والتطلع للمستقبل، بمزيد من تأكيد السياسات المدروسة للعقل الأوروبي الذي يمثل البلدان عنصراً جوهرياً وبارزاً في مسيرته التاريخية والمعاصرة، وليس بمنطق التراجع أمام هذه الهجمة، وهذا بصرف النظر عن أن ينجح الاتفاق في تحقيق طموحاته الكبيرة ويحول أوروبا إلى قطب دولي حقيقي أو لا، في العالم الذي يتم تشكيله الآن ببطء شديد وتذبذب واضح.
 
المواقف الذي يلعب هذا التيار الغربي دوراً رئيسياً في صياغتها مثل مكافحة التغير المناخي أو احترام الثقافات المختلفة والقيم الديموقراطية الحقيقية هي في مواجهة التيار الآخر الذي صنع العنصرية والتدخل العسكري الخارجي والظاهرة الاستعمارية بأشكالها المختلفة، وأساء للتطور الديموقراطي الطبيعي في العالم بتوظيفها لخدمة المصالح الغربية، وكي نقدم نموذجاً بسيطاً لذلك في موضوع تغير المناخ، فهو في كيفية رفض ترامب لتقرير حكومته الذي شارك فيه عدد ضخم من علماء بلاده، أمر لا يمكن لتيار الرشد والعقل أن يقدم عليه لأنه تربى ببساطة في مدرسة احترام العلم الذي دفعه إلى تبني موقف مختلف تمام في هذه القضية كما تبنى أيضاً الاقتناع بأن الاندماج الأوروبي هو السبيل الرئيس لمواجهة تحديات المستقبل، وهذا الصراع بين التيارين ممتد منذ سنوات طويلة وقد يمتد لسنوات أطول، ولكن المهم أن أوروبا والبلدين تحديداً ألمانيا وفرنسا تواصلان العمل على تحدي اللاعقلانية من خلال تلك القيم التي أقامت الحضارة الإنسانية الحديثة، أي الرشد والمسؤولية، وليس بالخضوع لمزايدات اللاعقلانية دون أن يتصور أحد أننا نسبغ صفات مثالية مبالغ فيها لماكرون وميركل- فهما ليسا كذلك- ولكنهما يمثلان الآن سياق التحدي والرفض لهذه التيارات المتطرفة.
 
* كاتب مصري.

التعليقات معطلة.