مقالات

احتجاجات «السترات الصفر».. هل تؤدي إلى احتجاجات أخرى؟

 
تركي محمد السديري
 
 
عدما اندلعت تظاهرات أصحاب «السترات الصفراء» في باريس بسبب زيادة الضرائب على منتجات الوقود ومنح إعفاءات لأصحاب رؤوس الأموال، فإن هذه التظاهرات موجهة ضد «الرأسمالية» المتوحشة، والتي في نهاية الأمر تقود إلى دولة النخبة التي تقصر الرفاه على 20 في المئة من الشعب وتسحق النسبة الباقية وتحولها إلى مجرد عمالة لدى النخبة، ولكي نفهم هذه التحولات الاقتصادية والاجتماعية في الكثير من الدول الرأسمالية سنلقي الضوء على بعض الأدبيات المتعلقة بهذه التحولات.
 
 
«الحداثة السائلة» وضع مفهومها المفكر وعالم الاجتماع البولندي المعاصر زيقمونت باومان وتناوله في العديد من الكتب والمحاضرات والندوات، ذلك المفهوم أراد به باومان وصف وتحليل الظاهرة التي يشار إليها عادة بما بعد الحداثة أو الحداثة السائلة، وأن السيولة المقصودة هنا تمثلها بوضوح تطورات كبرى مثل ظاهرة العولمة.
 
يشير هذا العالم إلى أن الليبيرالية انقسمت إلى قسمين، هما: ليبيرالية سياسية وليبيرالية اقتصادية، والاثنتان يوجد بينهما شيء من التعارض. الليبيرالية السياسية تعتمد على الحريات وحقوق الإنسان مع تنظيم الحريات الفردية ضمن إطار واضح من المصلحة الاجتماعية، أما الليبيرالية الاقتصادية فتعني تحرر الاقتصاد وطغيان منطق السوق ومبدأ الربح والخسارة على حساب العدالة الاجتماعية. لذلك، يطلق عليها «الليبيرالية الاقتصادية المتوحشة».
 
هذان المفهومان أديا إلى نشوء فكر جديد في بعض دول أوروبا وأميركا الجنوبية، يجمع ما بين الليبيرالية السياسية واليسار الاجتماعي، وهو ما يعرف بـ«الديموقراطية الاجتماعية»، وذلك بدمج مفاهيم العدالة الاجتماعية مع الليبيرالية السياسية لتعظيم مكاسب الليبيرالية السياسية وخفض الضرر الناتج عن الليبيرالية الاقتصادية المتوحشة.
 
وتعتمد الديموقراطية الاجتماعية على الإصلاح التدريجي للنظام الاقتصادي بإدخال مفاهيم «دولة الرفاه الاجتماعي»، وأهم هذه المفاهيم: الحريات الجماعية مثل حقوق الإنسان ومكافحة التمييز، المساواة والعدالة الاجتماعية وتعني المساواة في التنمية والسياسات الاقتصادية والاجتماعية الثقافية وتساوي الفرص دون تمييز، التضامن الاجتماعي، الديمقراطية وحقوق الإنسان.
 
مفهوم «دولة الرفاه الاجتماعي» ينسب إلى المستشار الألماني فرانتز فون بابن عام 1932، ولم يكتسب هذا المصطلح دلالة إيجابية إلا في مستهل الأربعينات من القرن الماضي عندما أراد رئيس أساقفة كانتربري وليم تمبل أن يقارن بين اهتمام النظام الديموقراطي البريطاني برفاه مواطنيه وبين روح العنف في ألمانيا النازية، لكن أول من طبق مبادئ «دولة الرفاه» هو لويد جورج رئيس وزراء بريطانيا خلال الفترة 1918 – 1922.
 
من خلال الطرح السابق يمكن أن نقول ان «دولة الرفاه» هي الدولة الديموقراطية المتطورة التي تطبق سياسة السوق وتلتزم لمواطنيها باحتياجاتهم الأساسية، وذلك من خلال ضمان التأمينات الاجتماعية للسكان، توفير حد أدنى من الدخل، الحصول على الغذاء، الحصول على العلاج الطبي، حق التربية والتعليم، حق السكن.
 
ويوجد العديد من الدول التي طبقت مفهوم «دولة الرفاه»، ففي الستينات من القرن الـ20 كانت أوروبا الديموقراطية كاملة تحولت إلى ديموقراطية اجتماعية تقوم على المزج بين الأسواق الحرة والحماية الاجتماعية الشاملة.
 
في مقالة مترجمة لـجاي سورمان وهو فيلسوف واقتصادي فرنسي ومؤلف كتاب «الاقتصاد لا يكذب» بعنوان: «دولة الرفاه – البقاء لله»، في هذه المقالة تطرق سورمان إلى أفول «دولة الرفاه»، مفتتحاً المقالة بعبارة: «في عام 1945 ولدت دولة الرفاه في بريطانيا ما بعد الحرب، وفي بريطانيا أيضاً شيعت دولة الرفاه إلى مثواها الأخير عندما تبرأ وزير الخزانة جورج أوسبورن من مفهوم المنفعة الشاملة حيث يستفيد الجميع من الحماية الاجتماعية».
 
ظل هذا المفهوم سائداً حتى عهد قريب، عندما رأى عدد من الساسة ورجال الأعمال أن تحقيق الرفاه لما يقارب الـ80 في المئة من السكان أمر في غاية الصعوبة، وأن الصحيح هو عكس النسبة، بحيث يتمتع الـ20 في المئة بالرفاه (دولة النخبة)، بينما يتحول الـ80 في المئة إلى عمالة منتجة تخدم الـ20 في المئة. هذا الفكر جاء بعد اجتماع عقد في فيرمونت سان فرانسيسكو بالولايات المتحدة أواخر أيلول (سبتمبر) 1995، ويرى الكاتب الأميركي جرمي رفكن مؤلف كتاب «نهاية العمل» أن 80 في المئة من السكان ستواجه مشاكل عظيمة، إذ يقول: «إن المسألة أن تأكل أو تؤكل».
 
من هذا الفكر جاء اتفاق التجارة الدولي وتسهيل تدفق رؤوس الأموال بين الدول وتم إلغاء حوار الشمال الجنوب وانطلقت فكرة العولمة والتي تقود إلى دولة النخبة. اتفاق التجارة الدولية نص على إلغاء وسائل دعم المنتجات والسلع، مثل إعانات الإنتاج الزراعي ومنتجات البترول ومنع الحماية الجمركية للمنتجات الوطنية.
 
جاي سورمان لم يتطرق إلى السبب الرئيس للقضاء على «دولة الرفاه» وهو بزوغ نجم العولمة، بل تطرق لهذا السبب كل من هانس بيترمان وهارلد شومان في كتابهما «فخ العولمة ـ الاعتداء على الديموقراطية والرفاه»، وفي خلاصة سريعة يقول هذان الكاتبان ان هناك الآن سيلاً أشبه بالطوفان في الأدبيات التي تتحدث عن هذا الموضوع. أولى هذه الطروحات هو أن العولمة، من خلال السياسات الليبيرالية الحديثة التي تعتمد عليها، إنما ترسم لنا صورة المستقبل بالعودة للماضي السحيق، راح المؤلفان يتحدثان عما يسمى بـ «دكتاتورية السوق والعولمة»، وذلك على ضوء ما يروج له منظرو العولمة من أفكار ومقولات وسياسات، كالقول مثلاً: «ان مراعاة البعد الاجتماعي واحتياجات الفقراء أصبحت عبئاً لا يطاق»، و»أن دولة الرفاه تهدد المستقبل، وانها كانت مجرد تنازل من جانب رأس المال إبان الحرب الباردة، وأن ذلك التنازل لم يعد له ما يبرره بعد انتهاء هذه الحرب». يعتقد المؤلفان أن هناك الآن ما يسمى بـ «أممية رأس المال»، فهم يهددون بهروب رؤوس أموالهم ما لم تستجب الحكومات لطلباتهم وهي مطالب عدة، مثل: منحهم تنازلات ضريبية سخية، تقديم مشروعات البنية التحتية لهم مجاناً، إلغاء وتعديل التشريعات التي كانت تحقق بعض المكاسب للعمال والطبقة الوسطى، مثل قوانين الحد الأدنى للأجور ومشروعات الضمان الاجتماعي والصحي وإعانات البطالة. يشير المؤلفان إلى أنه مع تسارع عمليات العولمة، فإن بعض المصطلحات المهمة التي شغلت ساحات الفكر والعمل طويلاً، مثل العالم الثالث والتحرر والتقدم وحوار الشمال الجنوب والتنمية الاقتصادية لم يبقَ لها في دنيا العولمة أي معنى، وهكذا تتحول الدعوة للانفتاح على السوق النقدي والمالي العالمي إلى آيديولوجية صارمة يجب أن يخضع لها الجميع، وإلا فقانون الغاب سيتكفل بالعقاب.
 
وكل دول العالم تقريباً أخذت -تحت تأثير الضغوط التي تمارسها عليها المنظمات الدولية- في تطبيق سياسات الانفتاح المعولم، أيضاً يرى المؤلفان أن إبعاد الدولة عن التدخل في الحياة الاقتصادية، وتجاهل البعد الاجتماعي، تحت دعوى أن السوق ينظم نفسه بنفسه، وأن كل امرئ يأخذ بحسب إنتاجيته، ما هي إلا أوهام ستؤدي إلى تدمير الاستقرار الاجتماعي الذي عرفته الدول الرأسمالية الصناعية في عالم ما بعد الحرب، إبان عصر دولة الرفاه.
 
ويشير المؤلفان إلى مختلف أشكال النضال التي تتم الآن، لتحقيق الديموقراطية المضادة لدكتاتورية الأسواق المعولمة، والمواجهة لبرامج الأحزاب اليمينية الرامية لهدم «دولة الرفاه» والتضامن الاجتماعي، فهناك الملايين من المواطنين الأوروبيين الذين يطالبون، بطريقة أو بأخرى، بوقف جنون السوق العالمية، ومراعاة إنسانية الإنسان، وحماية البيئة والعدالة الاجتماعية.
 
والسؤال الآن الذي يطرح نفسه: هل ستقتصر احتجاجات «السترات الصفر» على فرنسا أم ستنتقل إلى دول أخرى؟
 
* كاتب سعودي.

admin