اختزال العراق بين السمچ المسگوف وصيحة چااااي في شارع المتنبي

43

 

 

 حين تتحول الحضارة إلى مشاهد ترفيهية سطحية… وتسقط الثقافة في فخ السوشيال ميديا

 

في زمن تتسارع فيه التحولات وتختلط فيه القيم بالصورة، يطفو على سطح المشهد العراقي خطاب سطحي يُروّج له عبر منصات التواصل الاجتماعي، وعلى رأسها “التيك توك”، يُظهر العراق وكأنه مجرد مطعم مفتوح على الهواء الطلق، أو مشهد فولكلوري قابل للاستهلاك السياحي، يتجسد في “السمچ المسگوف” وصيحة “چاااي” الشهيرة لبائع الشاي في شارع المتنبي.

من يتابع هذه المنصات يلحظ زحفاً واسعاً للزائرين – عرباً وأجانب – وهم يروجون لما يُسمى “سحر العراق” عبر تجاربهم الشخصية في تذوق الطعام، أو زياراتهم للأهوار، أو تجوالهم في الأسواق الشعبية. ورغم ما يبدو من إيجابية في هذا الحراك، إلا أنه يخفي في طياته مشكلة عميقة: اختزال العراق العظيم، بتاريخ حضارته، وفكره، ونضاله، إلى لقطات استهلاكية سطحية، تتغذى على المشهد لا المعنى.

شارع المتنبي… من منصة للفكر إلى مسرح للمشاهد المصورة كان شارع المتنبي رمزاً للثقافة العراقية، يقصده طلاب المعرفة، يتجول فيه رواد الفكر، ويتنفس من خلاله العراق عبق كتبه ودفاتره. اليوم، أُعيد تشكيل هذا الرمز ليصبح مجرد خلفية سياحية لبائع شاي يجذب الناس بصيحته الشهيرة، وقد تحوّل إلى “أيقونة المثقف”، لا لشيء سوى لأن عدسات الهواتف صنعته كذلك.

السؤال الذي لا بد أن يُطرح: هل يُعقل أن يُختزل العراق، بكل ما فيه من تراكم حضاري وفكري، إلى “مكان جميل للزيارة والطعام اللذيذ”؟ أليس في هذا إهانة لعقل الأمة وتاريخها؟

المشكلة أعمق من مجرد صورة سطحية هذه الموجة ليست بريئة تماماً، بل تنسجم مع نهج عالمي لتفريغ المجتمعات من محتواها الفكري وإعادة إنتاجها كسلع قابلة للتسويق. ما يحدث هو تهميش منهجي لكل ما هو جاد، وتلميع لكل ما هو بسيط وساذج، في محاولة لتغييب الوعي الجماهيري وتشويش البوصلة الوطنية.

ما البديل؟ ليس المطلوب رفض مظاهر الحياة البسيطة، أو إنكار جمال المطبخ العراقي وطبيعة الأهوار، بل المطلوب هو وضعها في سياقها الطبيعي، كجزء من هوية غنية، لا ككل الهوية. المطلوب هو استعادة دور المثقف، وإعادة الاعتبار للكتاب، وللفكر، وللنقاش الحقيقي حول ما يعيشه العراق من أزمات بنيوية تحتاج وعياً لا مشاهد ترفيهية عابرة.

 العراق لا يُختزل، ولا يمكن لأي تيك توك أو محتوى مصوَّر أن يُلغي آلاف السنين من الإبداع والصراع. لكن إذا سكتنا عن هذا الاختزال، وتركنا الميدان لمن يصنعون صورة زائفة عن هذا البلد، سنكون شركاء في تزوير الحقيقة.

التعليقات معطلة.