اختلال في السّياسة الأميركيّة الشّرق أوسطيّة

1

 المصدر: النهار العربي .ناصر زيدان

 بلينكن في تل أبيب: أنا هنا كيهودي أولا (أ ف ب)

بلينكن في تل أبيب: أنا هنا كيهودي أولا (أ ف ب)

 أَبرَز العدوان الذي يُشنُّ على الشعب الفلسطيني خللاً هائلاً في المعايير الدولية وفي طريقة تعاطي الدول الكبرى مع الأحداث، وتتحمَّل الولايات المتحدة الأميركية المسؤولية الأساسية عن هذا الاختلال، لأنها تضع المعتدي والمُعتدَى عليه تحت سقف واحد، أو أنها تقف إلى جانب الظالم وضد المظلوم، وتبني سياستها في المنطقة العربية بناءً لمعلومات تُقدَّم لها من طرف إسرائيلي واحد، وواشنطن لم تحرّك ساكناً منذ فترة طويلة لمعالجة الأزمة الأطول والأخطر على المستوى الدولي؛ وهي قضية الشعب العربي الفلسطيني المشرَّد والمسجون في مربعات مُهلكة، وهو محروم من حقوقه البديهية والمشروعة في إقامة دولته المستقلة على أرضه التاريخية. حاولت الإدارة الأميركية تجنيد كل القوى، لا سيما في الشرق الأوسط، لمصلحة الوقوف إلى جانب الحرب التي تخوضها بالواسطة ضد روسيا في أوكرانيا، ولكن واشنطن لا تُقدم شيئاً ملموساً لأصحاب الحق في المنطقة العربية، ولا تمارس ضغوطاً على الدول المعتدية، كما هي الحال مع إسرائيل، بل تحاول الاستفادة من التناقضات المحلية والإقليمية لترويج مقاربات غير عادلة، أو لتنظيم صفقات مرحلية تتناقض مع مبادئ حقوق الإنسان، ومع حق تقرير المصير للشعوب، وفقاً لمعايير العدل والإنصاف والمساواة التي أنشدها المؤسسون في إعلان فرجينيا منذ ما يقارب 250 عاماً. الانفعال غير اللائق الذي ظهر فيه قادة الإدارة الأميركية تجاه ما حصل في غزة الفلسطينية؛ أفقد هذه الإدارة صدقيتها لدى شعوب المنطقة العربية والإسلامية، وهو لا يتناسب مع دور دولة عظمى تأسست على مبادئ احترام الديموقراطية وحقوق الإنسان، وقادة واشنطن أعلنوا مواقف لا تليق بصورة أميركا، لا سيما عندما قرروا إرسال أقوى بوارجها الحربية لمواجهة حراك الشعب الفلسطيني في غزة، والذي ذاق ذرعاً بالسجن الذي وضع فيه على أرضه، وبممارسات القتل والتجويع والإذلال التي يواجهها في كل يوم على يد قوات الاحتلال وعصابات المستوطنين، وتشبيه عمليات “حماس” بممارسات “داعش” لا ينطبق مع أي منطق، بينما يتجاهل قادة الولايات المتحدة الحصار الوحشي المفروض على الشعب الفلسطيني، ولا يتحدثون بكلمة واحدة عن الدمار والمجازر التي ترتكبها إسرائيل. الإدارة الأميركية وبعض دوائر الدول الغربية أخطأت في تقدير الموقف تجاه أهم ملف دولي على الإطلاق. وهؤلاء تجاهلوا المساعي التي بُذلت من أجل إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية، وفقاً للقرارات الدولية، أو بموجب المبادرات التصالحية الأخرى، وأهمها مقررات قمة بيروت العربية لعام 2002، والتي نصَّت على قيام الدولتين، وعلى مبدأ الأرض مقابل السلام. واستمرَّت الإدارة الأميركية في تشجيع المعتدي، وتجاهلت الممارسات الاستيطانية المتتالية التي قضمت معظم الأراضي الفلسطينية، ولم يتبق لأصحابها سوى أماكن محدودة مُحاطة بمستوطنات مسلحة، وهذا ينطبق على غزة وعلى الضفة الغربية في الوقت ذاته. يتوضَّح الاختلال في السياسة الأميركية الخارجية أكثر فأكثر، عند متابعة المسارات التفاوضية السرية التي تجريها مع أطراف فاعلة على المستوى الدولي، وفي منطقة الشرق الأوسط على وجه التحديد. وهي بالفعل ساهمت في تعميم الفوضى في دول عديدة، ولا سيما في العراق وفي سوريا وفي لبنان وفي اليمن، ومقارباتها الغريبة ساعدت أخصامها على توسيع نفوذهم، وشجَّعت المُعتدين على الفلسطينيين، بينما دفع أصدقاؤها ثمناً غالياً من جراء مواقفها، وهي لم تُدافع عنهم، حتى إبان المحن التي مرَّت عليهم. الرئيس الأميركي جو بايدن عارض علناً في الأشهر الأخيرة سياسة رئيس وزراء “إسرائيل” اليميني بنيامين نتنياهو، ولكن المفاجأة التي أثارت التعجُّب هي كيفية تحَّول بايدن إلى مدافع شرس عن مواقف نتنياهو المسؤولة عن الارتكابات بحق الشعب الفلسطيني، وهو دان العمليات التي يقوم بها الفلسطينيون، ولكنه تجاهل استخدام إسرائيل الأسلحة التدميرية والفتاكة المُحرمة دولياً، ولم يُدِن قتلها للأطفال والنساء العُزل في المدارس والمستشفيات.\فشلت إسرائيل وأصدقاؤها في طمس القضية الفلسطينية، وفي تحويل مسألة شعب له تاريخه الحافل، إلى مجرَّد قضية لاجئين، يكفي بالنسبة اليهم تأمين الطعام والشراب والتعليم ذي المستويات المتدنية له. وبعض المقاربات الغربية تناولت ما حصل بخلفية عنصرية تُذكِّر بالرؤى الاستعمارية. وإذا ما تمادت إسرائيل وغزت غزة برياً تكون قد أسست لعداء من نوع آخر، لا تنفع في طمسه أو نسيانه أي مفاوضات، ولن يصنع عدوانها الجديد حلاً نهائياً للكثافة السكانية الفلسطينية المخيفة لها في القطاع، بل سيزيد من صلابة الأجيال الفلسطينية، وسيُجهض أي فرصة للحل السلمي العادل الذي أشار إليه بيان وزراء خارجية جامعة الدول العربية. لقد تغير العالم، والولايات المتحدة الأميركية تحاول تحشيد أكبر عدد من الدول والشعوب إلى جانبها في صراعها المُستجد مع الصين وروسيا على الساحة الدولية، لكنها في الوقت ذاته ما زالت أسيرة لميثولوجيا خفية تُحركها الغرائز العقائدية التي يشجع عليها اللوبي المؤيد لإسرائيل، وقد أشار إلى هذه الميثولوجيا بكل وضوح وزير الخارجية أنتوني بلينكن، عندما قال في تل أبيب إنه يأتي إلى إسرائيل؛ أولاً بصفته يهودياً يدافع عن الشعب الذي ينتمي إليه، قبل أن يكون وزيراً لخارجية أميركا. ووفق هذه الرؤى المنحازة؛ ستخسر الإدارة الأميركية مَن بقيَ مِن أصدقائها، وستفقد كامل ثقة شعوب المنطقة التي تتطلع لتحقيق العدالة والسلام.

التعليقات معطلة.