إن مفهوم “ازدواجية المعايير” هو مصطلح ليس غريباً على السياسة الدولية، حيث تبرز مفارقات تتعلق بكيفية تعامل القوى الكبرى مع تهديدات مختلفة وفقًا لمصالحها. من الأمثلة البارزة على ذلك ما شهدناه في فترة غزو صدام حسين للكويت عام 1990. في ذلك الوقت، كان العالم متفقاً على أن هذا الغزو يشكل تهديداً خطيراً لأمن المنطقة والعالم، وأُثيرت تساؤلات حول مدى خطورة وجود ثلث نفط العالم ومليون جندي مسلح تحت إمرة صدام حسين. أجاب المهندس الدبلوماسي الأمريكي هنري كيسنجر على هذه المخاوف قائلاً: “لا أستطيع أن أتخيل أن ثلث نفط العالم ومليون جندي مسلح تحت إمرة صدام حسين”.
استناداً إلى هذا الفهم الدولي لخطورة الموقف، تحرك المجتمع الدولي بسرعة لمواجهة هذا التهديد المحتمل. ولم تكن هذه المخاوف متعلقة فقط بموضوع احتلال الكويت، بل تعدتها لتشمل اتهامات للعراق بامتلاك أسلحة دمار شامل، ودعمتها مزاعم بوجود صلات للنظام العراقي مع الإرهاب. هذه الحجج، رغم ثبوت زيفها لاحقاً، شكّلت الأساس للتدخل الدولي الذي أدى في النهاية إلى غزو العراق عام 2003 وإسقاط نظام صدام حسين.
ولكن ما يثير التساؤل اليوم هو مقارنة هذا الموقف الدولي مع التعامل الحالي مع إيران. تمتلك إيران مشروعاً نووياً مثيراً للجدل، بالإضافة إلى صناعة صواريخ باليستية بعيدة المدى. ويزيد الوضع تعقيداً دعم إيران للفصائل المسلحة في المنطقة، والتي تُتهم بإثارة الإرهاب الطائفي والفكري. بالإضافة إلى ذلك، تُشير تصريحات الرئيس الإيراني حول إمكانية رفع الحدود مع العراق، إلى طموحات إيران في تشكيل “الهلال الشيعي” من لبنان إلى سوريا والعراق، والسيطرة على المنطقة بأكملها.
هذا الواقع يطرح سؤالاً أساسياً: من هو الذي يشكل التهديد الحقيقي للمنطقة والعالم؟ ومن الذي يهدد واردات الطاقة العالمية اليوم؟ ومن له علاقة بالإرهاب بصورة أكبر، إيران الحالية أم العراق تحت حكم صدام حسين؟
من الجدير بالملاحظة أن المجتمع الدولي تعامل مع تهديدات صدام حسين بكل حزم، بينما يبدو اليوم أقل حماساً في مواجهة التحديات التي تمثلها إيران. ومن هنا تأتي مسألة ازدواجية المعايير في السياسات الدولية. فالمعايير التي طُبقت على العراق في السابق لم تُطبق بنفس القدر من الحدة على إيران. يعود ذلك إلى تعقيدات المصالح الدولية وتداخلها، حيث أن القوى الكبرى قد ترى في التحالفات أو التفاهمات مع إيران فرصاً لتحقيق استقرار إقليمي أو لموازنة قوى أخرى في المنطقة.
ومع ذلك، لا يمكن التغاضي عن أن البرنامج النووي الإيراني، وصناعة الصواريخ الباليستية، ودعمها للفصائل المسلحة، يثير مخاوف جدية. وعلى الرغم من كل التحديات المرتبطة بالتعامل مع إيران، فإن التصور الدولي لها لم يصل بعد إلى المستوى الذي اتخذ ضد العراق في عام 2003.
ما نراه هنا هو استخدام السياسة الدولية لوسائل الضغط بشكل انتقائي، حيث تُضخم التهديدات حين تتعارض مع مصالح معينة، ويتم التغاضي عنها أو تأطيرها في سياق أكثر اعتدالاً حين تتناسب مع مصالح أخرى.
إن ازدواجية المعايير هذه تثير تساؤلات حول مدى مصداقية وجدية الجهود الدولية في مكافحة التهديدات الحقيقية التي تواجه العالم. فالتحديات الحالية تتطلب نهجاً شاملاً وموحداً، لا يخضع للمصالح السياسية الآنية، بل يركز على تحقيق استقرار حقيقي وأمن طويل الأمد للمنطقة والعالم.