بات التفكير في القبول بكوريا الشمالية كقوة نووية أحد السيناريوات العملية التي تفرض نفسها بقوة على الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين بخاصة، وعلى المجتمع الدولي بعامة، بعد إجراء تجربتها النووية السادسة وسلسلة التجارب الصاروخية المتتالية.
وتستند مشروعية طرح هذا البديل إلى عدد من الحجج، نشير إلى ثلاثة منها. الأولى، تتعلق بوجود حالات تاريخية لدول نجحت بالفعل في اختراق نظام حظر الانتشار النووي، إحداهما في الشرق الأوسط (إسرائيل)، واثنتان في جنوبي آسيا (الهند وباكستان). وعلى رغم أن الأولى لم تواجه أي إجراءات عقابية من جانب المجتمع الدولي، فإن الحالتين الأخريين واجهتهما عقوبات دولية، لم تنجح في ثنيهما عن إرادتهما في امتلاك السلاح النووي.
نظام بيونغيانغ يقرأ هذه الحالات التاريخية بدقة، ويقرأ أيضاً حالة التناقض القوية القائمة بين القوى الدولية والإقليمية حول طريقة التعامل معه، على رغم ما يجمع بينها من توافق حول خطورة امتلاكه السلاح النووي. وإذا كان أحد العوامل المفسرة لنجاح الهند وباكستان في إجبار المجتمع الدولي على قبولهما كقوى نووية في نهاية المطاف هو امتلاك الإرادة السياسية والقدرة على المناورة، فإن نظام بيونغيانغ أثبت قدرة أكبر بكثير على فرض إرادته، وقدرة مماثلة على إدارة «معضلة الوقت» مع القوى الدولية والإقليمية، وهو شرط رئيس لحماية المشروع النووي، عسكرياً وسياسياً. ويمكن الرجوع في ذلك إلى خبرة المرحلة الممتدة من بدء المحادثات السداسية في آب (أغسطس) 2003، والتي انهارت أواخر عام 2008، وحتى الآن. كما أثبت النظام قدرة أكبر على استغلال التناقضات القائمة داخل المجتمع الدولي حول طريقة إدارة الصراع معه.
وليس أدل على ذلك من قراءة مضمون نصوص قرارات وبيانات مجلس الأمن بالمقارنة مع حجم تطورات البرنامج النووي والصاروخي التي تعاملت معها هذه القرارات، وقدرة النظام على التأقلم مع آلية العقوبات، وإصراره على تنفيذ سلسلة التجارب النووية والصاروخية على رغم كل أشكال التصعيد الأميركي ضده بالتنسيق مع الحلفاء الإقليميين، بل وبعض أشكال التصعيد الصيني… إلخ.
الحجة الثانية، تتعلق بصعوبات العمل العسكري ضد بيونغيانغ، وهي صعوبات تتعلق بالرفض الشديد المتوقع من جانب الصين، ليس فقط لحسابات تتعلق بأهمية الحفاظ على «الحليف» الكوري، لكنها تتعلق– وذلك هو الأهم- بخطورة التداعيات الاستراتيجية لهذا البديل على التوازنات الاستراتيجية في المنطقة لصالح الولايات المتحدة وحلفائها. ولا يقتصر الأمر هنا على الحسابات الصينية، لكنه يمتد أيضاً إلى كوريا الجنوبية واليابان- أكثر المتضررين من التهديد الكوري الشمالي- إذ من شأن استخدام البديل العسكري ضد بيونغيانغ أن يجعل منهما ساحة أساسية للمواجهة، سيكون لها ثمنها المادي والبشري الضخم، ليس فقط لجهة القدرات العسكرية المهمة لبيونغيانغ ولكن بالنسبة أيضاً لاعتبارات التركز الديموغرافي داخل طوكيو وسيول.
وإذا كان من الصعب اللجوء إلى الخيار العسكري خلال المراحل السابقة من عملية تطوير القدرات النووية والصاروخية الكورية، فإنه أضحى أكثر تعقيداً في ظل المرحلة المتقدمة التي حققها البرنامجان النووي والصاروخي.
استناداً إلى هذا التحليل، فإن القوى الدولية والإقليمية تصبح الآن- أكثر من أي وقت مضى- مدعوة إلى البحث في مرحلة ما بعد كوريا النووية وقراءة دقيقة للتداعيات الاستراتيجية المترتبة على ذلك.
أول تلك الاستحقاقات هو ضرورة انتقال القوى المعنية (الولايات وروسيا والصين وكوريا الجنوبية واليابان بجانب كوريا الشمالية) إلى بناء نظام أمن إقليمي يضمن احتواء كوريا الشمالية من خلال عملية تطبيع شاملة مع واشنطن وحلفائها، لتحقيق هدفين رئيسين: أولهما، عدم تحول بيونغيانغ إلى مصدر تهديد للأمن الإقليمي، وثانيهما عدم انتقال القدرات النووية والصاروخية إلى خارج كوريا الشمالية. وربما يكون مطروحاً هنا استئناف المحادثات السداسية، ليس بهدف تفكيك البرامج والمنشآت النووية الكورية ولكن للبحث في بناء هذا النظام، وإمكانية إنشاء ترتيب أمني إقليمي لمنطقة شمال شرقي آسيا، على غرار تجربة منتدى الآسيان الإقليمي. ثاني تلك الاستحقاقات يتعلق بالبحث في سيناريو إمكانية اتخاذ بعض القوي الإقليمية قراراً بامتلاك السلاح النووي، وربما يأتي في مقدمها اليابان، على خلفية تطور اتجاه يدعو إلى إعادة النظر في سياساتها النووية التقليدية القائمة على رفض إنتاج السلاح النووي.
وأخذ هذا الاتجاه درجة أكبر من الصدقية مع دعوة عدد من السياسيين اليابانيين إلى امتلاك اليابان لهذا السلاح، أو على الأقل إجراء دراسة جادة لهذا البديل، استناداً إلى مقولات عدة، أبرزها هو تراجع فعالية مظلة الردع الأميركية، بما فيها المظلة النووية. فنجاح كوريا الشمالية في تطوير قدراتها النووية والصاروخية على هذا النحو، وفي هذا الشكل المتسارع، يعني- وفق هؤلاء- فشل المظلة الدفاعية الأميركية في المنطقة في تحجيم الطموحات العسكرية والنووية لبيونغيانغ، وفشلها في إجهاض برامجه التسليحية، سواء باستخدام الوسائل السلمية (المحادثات السداسية) أو عن طريق استخدام القوة أو التهديد الفعلي باستخدامها، الأمر الذي يعني خطورة الارتكان إلى قدرة الردع الأميركية والحاجة الماسة إلى تطوير قدرة ردع نووية وطنية موازية للتهديد الكوري. فضلاً عن أن عدم تطوير سلاح نووي وطني سيؤدي إلى مزيد من التبعية الأمنية اليابانية للولايات المتحدة.
وفكرة امتلاك سلاح نووي ليست جديدة في اليابان، فقد أثير هذا البديل في منتصف الستينات في ظل حكومة ساتو، الذي طرحه على الرئيس الأميركي جونسون أثناء قمة بينهما عام 1965 إذا امتلكته الصين. وفي عام 1967، كلف ساتو فريقاً لدراسة ذللك البديل وانتهى إلى صعوبة امتلاكه، استناداً إلى التكلفة الاقتصادية وحساسية الرأي العام الياباني في هذا الصدد، وتداعياته السلبية على الأمن الإقليمي. كما أثير الأمر مجدداً في أوائل التسعينات مع بداية مشكلة البرنامج النووي الكوري، حيث قامت وكالة الدفاع الياباينة بإجراء دراسة حول هذا البديل، انتهت هي الأخرى إلى عدم جدواه الاستراتيجية. لكن الواقع الأمني الراهن قد يفرض إعادة النظر في تلك الحجج ويقوي الاتجاه المؤيد لتحول اليابان إلى قوة نووية، بخاصة في ظل تنامي التيار القومي المؤيد لإعادة النظر في الإرث الدستوري والدفاعي لمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
هذا الاستحقاق يعيدنا مرة أخرى إلى تأكيد أهمية الاستحقاق السابق، والمتمثل في ضرورة البحث في بناء نظام أمن إقليمي في شمال شرقي آسيا، كأحد المداخل المهمة للتعامل مع احتمالات الانتشار النووي الذي قد لا يقتصر على إقليم شمال شرقي آسيا.
ثالث تلك الاستحقاقات يتعلق يضرورة البحث في تداعيات بديل كوريا النووية على إيران، التي قد تسعى إلى محاكاة «النموذج الكوري». فإذا كانت دولة صغيرة، مثل كوريا الشمالية، ذات اقتصاد محدود، تعاني من عزلة سياسية واقتصادية، استطاعت التأقلم مع نظام من العقوبات الشاملة، وليس لديها مشروع للنفوذ والهيمنة الإقليمية مثل إيران، استطاعت اختراق حظر الانتشار النووي، فالأمر يصبح أكثر جاذبية وجدوي بالنسبة إلى طهران.
هذا الاستحقاق الأخير يدعو إلى تطوير مقاربة شاملة للتعامل مع التحدي النووي الإيراني، والتداخل المهم بين طريقة تسوية الأزمة الكورية والحالات الراهنة لمحاولات اختراق حظر الانتشار النووي.
استحقاقات ما بعد كوريا النووية وترقب اليابان وإيران
محمد فايز فرحات
التعليقات معطلة.