في ديسمبر 2018، ألقى البروفسور ماكس مانوارينج، خبير الاستراتيجية العسكرية والأمنية في معهد الدراسات التابع لكلية الحرب الأمريكية، محاضرة هامة في إسرائيل، حضرها كبار الضباط من حلف الناتو والجيش الإسرائيلي. في هذه المحاضرة، كشف مانوارينج عن استراتيجية جديدة للحرب تندرج تحت ما يسمى بـ”الجيل الرابع من الحروب”، حيث لم يعد الهدف تحطيم الجيوش أو السيطرة العسكرية المباشرة، بل تآكل الدول وإنهاكها ببطء واستدامة الصراعات الداخلية.
الإنهاك والتآكل البطيء: سلاح الحروب الجديدة
وفقاً لماكس مانوارينج، الجيل الرابع من الحروب لا يعتمد على المواجهة العسكرية التقليدية بل على إنهاك الدولة المستهدفة من الداخل عبر زعزعة استقرارها بشكل مستمر. الاستراتيجية تهدف إلى خلق “دولة فاشلة” لا يمكنها تلبية احتياجات شعبها الأساسية، وهذا يتم عبر المواطنين أنفسهم داخل تلك الدولة. يتم التحكم في الدولة العدو من خلال تفجير صراعات داخلية مستدامة، ما يؤدي إلى انقسامات حادة بين الشعب، ويضعف المؤسسات الوطنية على المدى الطويل.
ما يميز هذه الاستراتيجية هو أنها لا تهدف إلى تدمير الدولة بسرعة، بل إلى استنزافها تدريجياً. يمكن رؤية هذا الأسلوب في الحروب التي شهدتها دول مثل العراق، سوريا، اليمن، وليبيا، حيث لم تتعرض هذه الدول لانهيار فوري، بل تآكلت قدراتها تدريجياً على مر السنوات. يتم ذلك عبر دعم “محليين شرسين” – كما وصفهم مانوارينج – لتنفيذ هذه العمليات، دون الاهتمام بعدد الضحايا المدنيين، حيث أن الهدف النهائي هو السيطرة التامة وتقويض أسس المجتمع والدولة.
لماذا التآكل البطيء وليس الانهيار السريع؟
يكمن الهدف الأساسي وراء التآكل البطيء في عدم ترك أي مقومات أو مؤسسات قائمة يمكن أن تساهم في استعادة الدولة عافيتها بعد انتهاء الحرب. فعلى عكس الانهيار السريع، الذي قد يترك للدولة فرصة إعادة البناء، فإن الاستنزاف البطيء يعمل على تفتيت المجتمعات وتفكيك البنية التحتية بشكل تدريجي، ما يجعل إعادة الاستقرار أو الإصلاح شبه مستحيل.
تتم إدارة الأزمات عن قصد لتبقى مستدامة، بدلاً من السعي لحلها. يتم تسخين جبهات معينة وتهدئة جبهات أخرى، بحيث تكون الدولة العدو محاصرة في صراعات مستمرة ومتعددة، سواء كانت اقتصادية أو عسكرية أو اجتماعية. والنتيجة هي دولة مدمرة من الداخل، غير قادرة على إعادة بناء نفسها، ما يجعلها عرضة للتبعية والتدخل الخارجي.
أدوات الحرب: الإعلام والديمقراطية وحقوق الإنسان
من خلال شعارات براقة مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرب على الإرهاب، يتم إخفاء الأهداف الحقيقية لهذه الاستراتيجية. المجتمعات تُستدرج لتدمير ذاتها من الداخل، دون وعي بأن هذه الحروب ليست حروب تحرير أو بناء مجتمعات أفضل، بل حروب تهدف إلى محو الهوية الوطنية وتفكيك البنية الاجتماعية والسياسية للدول. يتم إشعال الخلافات والصراعات بين فئات الشعب المختلفة، ما يؤدي إلى استمرار النزاع والاقتتال، في حين تتحول الدولة إلى مسرح للصراعات الدموية والانقسامات.
مستقبل المنطقة: هل من مخرج؟
ما يجري في الشرق الأوسط اليوم ليس نتيجة أحداث عشوائية، بل هو جزء من استراتيجية طويلة الأمد لتفتيت دول المنطقة وتحويلها إلى تابعين لا حول لهم ولا قوة. استراتيجية التآكل البطيء تتيح للجهات الخارجية التحكم في هذه الدول على مدى سنوات دون الحاجة إلى تدخل مباشر أو مواجهات عسكرية مكلفة. الشعوب في منطقتنا تحتاج إلى وعي بخطورة هذه الاستراتيجية وإدراك أن الحلول الحقيقية لا تكمن في استمرار إدارة الأزمات، بل في السعي لحلها والوقوف ضد المخططات التي تستهدف وجودهم ومواردهم.
على قادة المنطقة وشعوبها أن يدركوا أن الاستمرار في هذه الحروب المستدامة سيؤدي إلى تدمير شامل لا يمكن التراجع عنه. وختاماً، هل نستطيع أن ندرك أن الانهيار البطيء أسوأ بكثير من الانهيار السريع، وأنه إذا لم يتم التحرك بوعي وذكاء، فقد نجد أنفسنا أمام دول مدمرة وشعوب مشردة على مدى العقود القادمة؟
العراق: النموذج الأبرز لاستراتيجية الإنهاك والتآكل البطيء
إذا كان هناك مثال حيّ على ما تحدث عنه البروفسور ماكس مانوارينج في محاضرته حول الجيل الرابع من الحروب، فهو العراق. منذ الغزو الأمريكي في 2003، بات العراق مسرحًا لتطبيق هذه الاستراتيجية بكل تفاصيلها. لم يكن الهدف تحطيم الجيش العراقي فقط، بل إحداث تآكل بطيء لمؤسسات الدولة والمجتمع من الداخل. تم تقسيم البلاد على أسس طائفية وعرقية، وبدأت الفصائل المحلية المتناحرة تفتك بكيان الدولة، مدعومة تارة من قوى إقليمية وتارة أخرى من جهات دولية.
أصبح العراق محاصرًا بين أزمات داخلية وخارجية متعددة، من حرب طائفية إلى إرهاب وصولاً إلى انهيار اقتصادي. وبدلاً من إعادة بناء البلاد بعد سقوط النظام السابق، تم استنزاف موارده تدريجيًا عبر صراعات داخلية لا تنتهي، جعلت من الدولة عاجزة عن تلبية الاحتياجات الأساسية لمواطنيها.
كما أشار مانوارينج، فإن التآكل البطيء هو السلاح الأكثر فتكًا في هذه الحرب. العراق لم ينهار فجأة، بل تعرض لعملية تفكيك بطيئة عبر سنوات، حيث أصبح عدم الاستقرار هو القاعدة، واستدامة الأزمة هي السياسة المعتمدة. يتم تسخين جبهة الإرهاب حينًا، وتهدئة الوضع حينًا آخر، وكل ذلك في إطار سياسة إدارة الأزمة لا حلها، مما يُبقي العراق في دائرة مفرغة من الصراعات والتبعية.
هذا النهج لم يترك للمواطن العراقي أي فرصة لبناء دولة قوية أو استعادة السيادة الكاملة. وبدلاً من ذلك، أصبح العراق ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية، حيث تُستخدم الفصائل المحلية كأدوات لتنفيذ أجندات خارجية. النتيجة هي دولة تتآكل ببطء، مجتمع يزداد انقسامًا، وشعب منهك بين الفقر والعنف.
باختصار، العراق هو تجسيد واقعي لما وصفه مانوارينج من “الإنهاك والتآكل البطيء”، حيث يتم تفكيك الدولة والمجتمع بطريقة مدروسة لا تترك فرصة للانتعاش، بل تؤدي إلى تدمير متدرج يجعل من العراق نموذجًا صارخًا للحروب الجديدة في القرن الحادي والعشرين.