استراتيجية الصين تجاه ترمب

2

بكين تتحضر للاستفادة من الاضطراب الذي سيخلقه الرئيس الأميركي
يون صن
ملخص
تستعد الصين لفترة حكم ترمب بتعزيز اقتصادها المحلي وتحسين علاقاتها الخارجية وتوسيع نفوذها في الجنوب العالمي. وعلى رغم الحرب التجارية، فإنها تعتمد على استراتيجيات مرنة لتخفيف تأثير العقوبات الأميركية. وفي المحصلة تؤمن بكين بأن سياسات ترمب ستضعف واشنطن، مما يتيح لها فرصة لترسيخ مكانتها العالمية.
خلال الأشهر التي تلت فوز ترمب بالانتخابات الرئاسية الأميركية في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2024، راح صناع السياسات في بكين ينظرون بوجل وخوف إلى السنوات الأربع المقبلة من العلاقات الأميركية – الصينية، إذ إن بكين كانت من البداية تتوقع اعتماد إدارة ترمب سياسات متشددة تجاه الصين ومفاقمة الحرب التجارية بين البلدين والحرب التكنولوجية والنزاع على تايوان. وتسود قناعة بأن على الصين الاستعداد لعواصف مقبلة في تعاملاتها مع الولايات المتحدة.
وجاء قرار ترمب بفرض رسوم جمركية بنسبة 10 في المئة على جميع البضائع والمنتجات الصينية ليبرر هذه المخاوف. وردت الصين من جهتها بسرعة، إذ أعلنت رسوماً جمركية على بضائع أميركية محددة، إضافة إلى قيود فرضتها على صادرات معادن حيوية، وتحقيقات لمكافحة احتكار شركة “غوغل” المتمركزة في الولايات المتحدة. لكن على رغم وجود أدوات وتدابير كهذه بتصرف بكين، تبقى قدرتها على تجاوز واشنطن والتفوق عليها في سباق التنافس المحتدم، محدودة بسبب القوة الأميركية النسبية والعجز التجاري الكبير مع الصين. وإدراكاً لهذه المشكلة، عمل صانعو السياسات الصينيون منذ الولاية الأولى لترمب على تكييف نهجهم تجاه الولايات المتحدة، وأمضوا الأشهر الثلاثة الماضية في تطوير استراتيجيتهم على نحو أكبر للتنبؤ بردود الفعل الأميركية والتصدي لها والحد من تأثير سياسات ترمب المتقلبة. ونتيجة لذلك، يجري بصمت جهد واسع لتعزيز الاقتصاد المحلي والعلاقات الخارجية للصين.
واستعدادات بكين في هذا المنحى تحاكي إلى حد ما استراتيجية إدارة بايدن تجاه الصين، القائمة على قواعد “الاستثمار والمواءمة والمنافسة” التي تعني الاستثمار في قوة الولايات المتحدة والانسجام مع الشركاء والتنافس عند الضرورة. في المقابل، فإن نهج بكين للتعامل مع أعوام ترمب يركز على منح الاقتصاد (الصيني) المحلي مرونة أكبر والتوافق والتصالح مع الجيران الأساسيين وتعميق العلاقات مع بلدان الجنوب العالمي. وقد يكون ترمب قادراً على تحقيق بعض الانتصارات على المدى القصير، إلا أن خطط بكين في السياق تتطلع إلى ما يتجاوز هذا المدى ويتخطاه. فالقادة الصينيون ما زالوا مقتنعين بقدر بلادهم التاريخي في الصعود وإزاحة الولايات المتحدة من موقعها كقوة عالمية متصدرة. وهم يعتقدون بأن سياسات ترمب ستقوض القوة الأميركية وتقلل من المكانة العالمية للولايات المتحدة على المدى البعيد. وعندما يتحقق ذلك ترغب الصين في أن تكون مستعدة للاستفادة واقتناص الفرصة وقيادة العالم.
حركة إصلاح
لقد شكلت مهمة تحصين الجبهة الداخلية عنصراً رئيساً في استراتيجية بكين، إذ بناء على توقعها لما ستحمله رئاسة ترمب من تقلبات في مجالات التجارة والعقوبات والرقابة على الصادرات، قامت الصين باعتماد إجراءات تحفيزية لتعزيز اقتصادها الفعلي وتقوية استهلاكها المحلي. وفي الثامن من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2024، بعد ثلاثة أيام من الانتخابات الأميركية، أعلنت بكين عن برنامج لتوزيع 1.4 تريليون دولار بغية تقليص الديون الحكومية المحلية على مدى سنتين. وقدّر صندوق النقد الدولي من جهته بأن إجمالي الديون الحكومية الصينية المحلية يبلغ قرابة 9 تريليونات دولار، والتعامل مع هذه المشكلة يمثل دفعاً رئيساً من الحكومة المركزية بغية الإسهام في استقرار الاقتصاد وبث مزيد من الثقة بالسوق الصينية. وبعد شهر، في التاسع من ديسمبر (كانون الأول) عام 2024، تعهدت بكين اعتماد “مزيد من السياسات المالية الفاعلة وسياسات نقدية فضفاضة إلى حد ما” التي تستلزم عملياً مزيداً من الإنفاق الحكومي وتوسيع الموازنة وتخفيض معدلات الفائدة. وهذا يشكل افتراقاً من سياسات شد الحزام المعتمدة منذ عام 2010 وتوجهاً نحو التحفيز الاقتصادي. وفي منتصف الشهر نفسه قام “مؤتمر العمل الاقتصادي المركزي الصيني”، وهو اجتماع حكومي أساسي يحدد السياسة الاقتصادية لكل سنة، بتكرار تلك التعهدات والوعود. وتضمنت توصيات المؤتمر المذكور وعوداً بمزيد من عمليات الإنفاق الحكومي وخفض معدلات الفائدة، وغيرها من السياسات الهادفة لتحقيق النمو.
ولدى بكين الأسباب الكافية لاعتماد هذه التدابير بغض النظر عن سياسة ترمب. فظروف التباطؤ الاقتصادي السائدة خلال الأعوام الأخيرة، والنتائج الفاترة حتى الآن لجهود التحفيز الحكومية، أمور تستدعي مزيداً من عمليات التدخل الملموسة والجوهرية. إلا أن المخاوف من تصاعد التوترات مع الولايات المتحدة أسهمت بلا شك في تحفيز صناع السياسات على التحرك. وفي هذا الإطار وخلال بيانه في ديسمبر 2024، أشار “مؤتمر العمل الاقتصادي المركزي” إلى “الأثر السلبي المتزايد الناجم عن البيئة الخارجية المتبدلة” الذي استدعى اعتماد سياسات مالية محدثة. والتغيير الأهم في البيئة الخارجية بالنسبة إلى الصين جاء نتيجة الانتخابات الرئاسية الأميركية.
يبدو أن فرض ترمب للتعريفات الجمركية جاء ليبرر مخاوف بكين
وأيضاً فإن دفع بكين باتجاه الإصلاحات لا يتعلق فحسب بإصلاح مشكلات اقتصادية داخلية والمحلية، بل يمثل كذلك محاولة لتأمين فرص جديدة للتجارة الدولية. ففي محادثات مع مجموعة من صناع السياسة الأميركيين إثر انتخابات نوفمبر، أعرب محاورون صينيون عن اهتمامهم بتطبيق واحترام اتفاق “المرحلة الأولى” (Phase One) التجاري الموقع من قبل بكين وواشنطن في يناير (كانون الثاني) عام 2020 والذي ينص على شراء الصين ما قيمته 200 مليار دولار من المنتجات الأميركية. حتى إن المتحاورين الصينيين أثاروا أيضاً إمكان بدء مفاوضات اتفاق “المرحلة الثانية” (Phase Two) الذي سيركز على إجراءات الإصلاح الهيكلي المتضمنة تدابير تعالج العلاقة بين الحكومة الصينية والشركات المملوكة من قبل الدولة. وبالنظر إلى حساسية بكين في ما يتعلق بمسائل كهذه، فإن تحقيق تقدم في تلك المفاوضات بدا منذ فترة طويلة احتمالاً بعيداً. لكن مع التباطؤ الاقتصادي الداخلي في الصين ومع تصاعد الحرب التجارية مع الولايات المتحدة، فإن بكين اليوم تشعر بضغط متزايد.
كذلك تتطلع الصين في هذا الإطار إلى تنويع خياراتها التجارية، فخلال الأشهر الأخيرة أشارت تصريحات وزارة الخارجية ووزارة التجارة مراراً إلى الجهود التي تبذلها الصين للانضمام إلى “الاتفاقية الشاملة والتقدمية للشراكة عبر المحيط الهادئ” (Comprehensive and Progressive Agreement for Trans-Pacific Partnership)، الاتفاقية التجارية التي تضم 12 شريكاً والتي خلفت “شراكة المحيط الهادئ”، المجمدة عام 2017 بعد انسحاب الولايات المتحدة منها. فالأعضاء المشاركون في هذه الاتفاقية ينبغي أن يلبوا متطلبات وشروط صارمة للعضوية التي ستتطلب في حالة الصين إجراء إصلاحات هيكلية جادة. وتدرك بكين من هذه الناحية قيمة آليات التجارة متعددة الأطراف، إذ إن انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001 ربما مثل العامل الأكبر على الإطلاق في صعود الصين الاقتصادي. ومع تخلي البلدان عن منظمة التجارة العالمية وسعيها إلى ترتيبات بديلة على نسق “الاتفاقية الشاملة والتقدمية للشراكة عبر المحيط الهادئ”، فإن بكين تود ضمان عدم استبعادها. واليوم مع وجود ترمب في السلطة، غدا الاستيعاب (والدخول في التفاهمات) أكثر أهمية من ذي قبل، إذ تسعى الصين من خلال هذا إلى التعويض عن فقدان الوصول إلى الأسواق الأميركية.
إصلاح العلاقات الخارجية
وتضمنت استعدادات الصين لوصول ترمب إلى السلطة اندفاعة دبلوماسية أيضاً، فتحسباً لتصاعد التوتر في المحيطين الهندي والهادئ، حاولت تسوية الخلافات مع الهند واليابان، البلدين الجارين اللذين ربطتهما بها علاقات مضطربة طوال أعوام عدة ماضية. وتحقيق الاستقرار في الجوار المباشر للصين سيقلل من مصادر التشتيت لبكين ومن الممكن أن يقوض جهود الولايات المتحدة لدفع شركائها إلى الضغط على الصين. وتحسين العلاقات مع اليابان وأستراليا أيضاً يُعدّ وسيلة للصين لكسب ود قادة “اتفاقية الشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادئ”.
وفي هذا السياق بدت الانفراجة ملحوظة في العلاقات الصينية – الهندية، إذ توصلت الصين والهند فجأة في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2024 إلى اتفاق لفض الاشتباك في منطقة لاداخ الحدودية المتنازع عليها بينهما، بعد أربع سنوات من المواجهات العسكرية. وإثر انتخاب ترمب قامت الصين بدعوة مستشار الأمن القومي الهندي آجيت دوفال إلى بكين لإجراء محادثات تتعلق بمسائل حدودية. حتى إن دوفال منح لقاء مع نائب الرئيس الصيني هان زينغ – وهي خطوة غير معتادة تشير إلى حسن النوايا. كما قدمت الصين خلال الزيارة وعوداً ملموسة إلى الهند، بما في ذلك السماح للمواطنين الهنود بحق المرور لاستئناف الحج إلى التيبت والتعاون في الممرات المائية المشتركة والتجارة بين البلدين في ممر ناثولا الجبلي. أما الأهم في هذا الإطار فيبقى تعهد الصين بانتهاج “صيغة حل عادلة ومنطقية ومقبولة من الطرفين، لمسألة الحدود”، فكثيراً ما أرجأت بكين اتفاقاً شاملاً حول الحدود الصينية – الهندية (فيما سعت نيودلهي إلى صفقة في هذا الإطار) لأنها رأت أن إبقاء النزاع حياً يمنحها قوة ونفوذاً. لكن الآن تظهر الصين إرادة لالتزام حل مقبول.
قد يسجل ترمب انتصارات في المدى القصير لكن بكين تتطلع إلى ما هو أبعد
كذلك حققت الصين تقدماً باتجاه اليابان، متأملة في تحسين العلاقات مع أهم حليف للولايات المتحدة في المنطقة، إذ أعلنت بكين في سبتمبر (أيلول) 2024، أنها ستقوم تدريجاً بإلغاء الحظر على صادرات الأغذية البحرية اليابانية الذي كانت فرضته في أغسطس (آب) 2023. وبعد لقاء الزعيم الصيني شي جينبينغ برئيس الوزراء الياباني شيغيرو إيشيبا على هامش قمة “التعاون الاقتصادي في آسيا – المحيط الهادئ” في البيرو خلال نوفمبر من العام الماضي، قامت بكين باعتماد حق الدخول من دون تأشيرة للزوار اليابانيين إلى الصين. كما استؤنف في يناير الماضي التواصل بين الحزبين الحاكمين في الصين واليابان الذي بدأ عام 2004 وبقي مجمداً طوال السنوات السبع الماضية، مع استضافة الصين وفداً دبلوماسياً يابانياً في بكين. وخلال ذلك الاجتماع قيل إن وزير الخارجية الصيني وانغ يي اقترح أن يقوم إيشيبا بزيارة إلى بلاده خلال الألعاب (الأولمبية) الآسيوية الشتوية التي ستستضيفها. وفي الوقت عينه، تقوم بكين منذ فترة بمبادرات تجاه أستراليا، وهي أعلنت من جانب واحد في أواخر نوفمبر من العام الماضي إعفاء المواطنين الأستراليين الذين يزورون الصين من التأشيرات لمدة 30 يوماً.
اقرأ المزيد
كيف تؤثر وتيرة النمو في الصين على ديناميكيات الحرب التجارية؟
الصين تصعد تهديداتها في الفضاء السيبراني
حرب أميركا ضد التكنولوجيا الصينية ارتدت عليها
كيف ستواجه إدارة ترمب التحدي الصيني؟
كيف تتدفق أموال “ساخنة” عبر الصين إلى أميركا؟
الصين لن تبقى مكتوفة الأيدي تجاه هجوم ترمب التجاري
ولم تبدأ بكين بالتركيز على التواصل مع شركاء الولايات المتحدة إلا عندما أصبح احتمال عودة ترمب للسلطة واقعاً حقيقياً. فعلى رغم أن الصين تخلت تدريجاً عن دبلوماسية “الذئب المحارب” العدائية بعد إعادة فتح البلاد عقب جائحة كورونا عام 2023، فإن علاقاتها مع الهند واليابان تحديداً ظلت متوترة، فاستمرت التوترات الحدودية مع الهند، بينما شنت بكين انتقادات شديدة ضد اليابان بسبب تصريفها مياه الصرف المشعة المعالجة في المحيط الهادئ. ولكن عندما واجهت الصين حال عدم اليقين التي قد تجلبها ولاية ثانية لترمب، سعت إلى تحسين علاقاتها مع البلدين.
مسالك بديلة
وراحت الصين كذلك توسع تعاونها مع بلدان في الجنوب العالمي كي تؤمن مسالك غير مباشرة إلى الأسواق الأميركية، فمع إسهام الرسوم الجمركية والانقطاعات في سلاسل الإمداد في الإخلال بالروابط التجارية المباشرة بين الولايات المتحدة والصين، بات التواصل التجاري بينهما يحصل أكثر فأكثر على نحو غير مباشر. ويجري في الواقع استخدام المواد والأجزاء الصينية ذاتها في السلع المصدرة إلى الولايات المتحدة، لكن الآن تُصنع أو تُجمع المنتجات النهائية في بلدان أخرى، وليس في الصين. وقبلت بكين بهذا الانتقال إلى التجارة المواربة. وما زالت صادرات الصين عموماً قوية، إذ بلغ فائضها التجاري ذروته مسجلاً نحو تريليون دولار عام 2024. وأسرع أسواقها التصديرية نمواً في هذا الإطار هي دول في الجنوب العالمي، مثل البرازيل وإندونيسيا وماليزيا وتايلاند وفيتنام التي يعمل كثير منها كوسطاء عن طريق معالجة المواد الصينية وتصدير السلع النهائية إلى الولايات المتحدة.
وقامت الصين على نحو مقصود وطوال الأعوام الأخيرة بتيسير النمو في شبكات التوريد هذه عبر الاستثمار في آسيا وأميركا اللاتينية. وفي هذا السياق، مثلاً، زاد الاستثمار الصيني في فيتنام بنسبة 80 في المئة عام 2023 ليبلغ 4.5 مليار دولار، ووصلت التجارة الثنائية الصينية – الفيتنامية إلى 260 مليار دولار – أي أكثر من تجارة الصين مع روسيا، حتى مع النفط والغاز اللذين اشترتهما الصين من روسيا خلال الحرب في أوكرانيا. وفي المكسيك، بحسب الاقتصادي البارز بالأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية شو تشيوان، بلغ الاستثمار المباشر الذي تقوم به الصين في العام الواحد ثلاث مليارات دولار، أي أكثر بـ10 مرات مما تفيد به تقارير المعلومات الرسمية. فالشركات الصينية تظهر حرصاً خاصاً على الاستثمار في البلدان التي تؤمن لها مسالك إلى السوق الأميركية.
وعلى رغم أن الصين ما زالت تفضل التجارة المباشرة مع الولايات المتحدة، فإن تزعّم نظام تجاري موازٍ مع دول الجنوب العالمي يمثل لبكين بديلاً مقبولاً. وثمة احتمال أن يقرر ترمب معاقبة دول الطرف الثالث لتعاونها الاقتصادي مع الصين، كما هدد في سياق قضية بنما. ولا تملك بكين حلاً واضحاً ويسيراً لهذا النوع من التفاقم والاضطراب، بيد أن تحركات ترمب قد لا تضر بالضرورة بعلاقات الصين الاقتصادية، وحتى بالنسبة إلى البلدان التي يمسّها غضبه، لا يزال الأخذ في الاعتبارات الاقتصادية العملية ممكناً أيضاً، فبعد انسحاب إيطاليا من “مبادرة الحزام والطريق الصينية” في ديسمبر عام 2023، لم تنتهِ العلاقات الاقتصادية الإيطالية – الصينية فعلياً، بل زادت التبادلات التجارية بينهما عام 2024. والصفقات التجارية المربحة مع الصين، بالنسبة إلى بلدان عدة في الجنوب العالمي، ستبقى ذات جاذبية كبيرة. كما يمكن لبكين في هذا الإطار أن تجني الفوائد إن قوضت الإجراءات الأميركية القاسية والمتشددة علاقات واشنطن بدول أساسية.
اللعبة المديدة
لدى الصين خيارات للرد المباشر على التعريفات الجمركية الإضافية أو الإجراءات التجارية الأخرى التي من الممكن أن يفرضها ترمب. وتشمل مجموعة خيارات الرد الصينية ضوابط التصدير والعقوبات على الشركات الأميركية وتخفيض قيمة العملة الصينية وتعريفات انتقامية على الصادرات الأميركية للصين وغيرها. وأي من هذه الإجراءات سيطبقها الصينيون ومتى، يبقى أمراً معتمداً على ما يقرر ترمب القيام به، إذ على عكس نهجها خلال ولاية ترمب الأولى، ذاك النهج الذي كان تفاعلياً إلى حد كبير، فإن ما ستلجأ إليه بكين هذه المرة لن يقتصر على الردود التكتيكية، بل سيكون من ضمن استراتيجية أشمل. فالصين في النهاية تأمل في استخدام سياسات ترمب لمصلحتها. وفي هذا المنحى يمكن للقادة الصينيين استخدام الحرب التجارية التي استدعتها الولايات المتحدة، بغية تحشيد مجموعات المصالح المحلية المختلفة حول فكرة إجراء اصلاحات داخلية ذات مغذى، وتوسيع العلاقات مع الدول التي تقوم الولايات المتحدة بتنفيرها، وهذه أمور تسهم في تعزيز موقف الصين ضمن نظام التجارة العالمي المعاد توجيهه.
كما أن القيادة الصينية في هذا الإطار، وعلى عكس عام 2016، تدرك ما يمكن توقعه من ترمب. خلال ولايته الأولى أظهر ترمب لبكين أن كل الأوراق مطروحة على الطاولة. وقامت إدارته بكسر المحرمات في سياق مناقشة مسألتي الحزب الشيوعي الصيني وتايوان، ودحضت تلك الإدارة الافتراض القائل إن العلاقات الأميركية – الصينية لن تغرق إلى ما دون قاع محدد. وساعدت هذه التجربة في الواقع على تحضير صانعي السياسات في بكين كي يأخذوا في الحسبان احتمال فرض الإدارة الأميركية رسوماً جمركية عالية ومدمرة على جميع السلع الصينية، واحتمال سعي الأميركيين إلى تعزيز العلاقات الأميركية مع تايوان. ولا يسع القادة الصينيون بعد أن شهدوا انهيار العلاقات الثنائية بين بلدهم والولايات المتحدة عام 2020 إثر تفشي “كوفيد-19″، سوى الشعور بأنهم سلفاً اختبروا الأسوأ في هذا المضمار. ويمكن القول هنا إن ترمب فقد عنصر المفاجأة.
في نهاية المطاف تأمل الصين في استخدام سياسات ترمب لمصلحتها
بعد ثمانية أعوام من التعلم والاستعداد لامتصاص التداعيات السلبية لسياسات ترمب عبر الاستثمار في الداخل وبناء الشراكات مع بلدان الجنوب العالمي، ترى بكين اليوم أن بوسعها تحمل رئاسة أميركية مضطربة. ربما يكون هناك بعض التفاؤل المفرط الذي يسهم في تحريك استراتيجية بكين بهذا السياق؛ فالاقتصاد الصيني في وضع غير مستقر ومشكلة الإنتاجية المفرطة في البلاد تجبرها على زيادة الصادرات، مما يخلق ردود فعل واعتراضات في جميع أنحاء العالم. كما أن مستقبل الصين الاقتصادي غير مؤكد، وقد لا يتم عكس التراجع حتى في ظل التدخل الحكومي النشط، وهذا بغض النظر عما تفعله الولايات المتحدة الأميركية.
ولكن القادة الصينيين ما زالوا واثقين من أنه حتى لو عانى اقتصاد البلاد، فإن أربعة أعوام من حكم ترمب لن تؤدي إلى أزمة كاملة. وهم يتوقعون أنه، إذ اتبع ترمب سياساته المعلنة، كتلك المتعلقة بالتجارة والتوسع الإقليمي، فقد يلحق أضراراً جسيمة بمصداقية الولايات المتحدة وقيادتها العالمية. بالتالي ترى بكين أن فترة رئاسة ترمب الثانية تمثل فرصة لتعزيز نفوذها وتوسعته وبإيقاع أسرع. والمنافسة مع الولايات المتحدة الأميركية، من وجهة النظر هذه، لا تمثل في حد ذاتها القوة الدافعة وراء الاستراتيجية الصينية الكبرى، بل هي مجرد عنصر واحد في إطار عملية أكبر: صعود الصين وحلولها مكان الولايات المتحدة كقوة عظمى تقود العالم، مما يصفه شي عادة بـ”تغييرات غير مسبوقة لم نشهدها منذ قرن”. وتفترض بكين أن سياسات واشنطن نفسها هي التي ستفكك أسس الهيمنة الأميركية العالمية، حتى لو تسبب ذلك في اضطرابات كبيرة لدول أخرى. والأولوية القصوى للصين حينها، وببساطة، ستتمثل في الصمود بوجه الأزمة بأقل أضرار ممكنة.
يون صن مديرة “برنامج الصين” في مركز بحوث “ستيمسون”

التعليقات معطلة.