استفتاء يطرح مصير شعب ومصالح دول

1

عبدالباسط سيدا

تشتد الضغوط الإقليمية والدولية على القيادة الكردية في إقليم كردستان العراق، وعلى الرئيس مسعود بارزاني تحديداً، في سبيل إرجاء موعد الاستفتاء المقترح حول استقلال الإقليم إلى أجل غير مسمى، ومن دون أية ضمانات تؤكد أن المطالبين بالتأجيل سيدعمون موضوع الاستفتاء في موعد آخر، يتم التوافق عليه.
وتتجلى هذه الضغوط أيضاً في صيغ ومواقف وتصريحات داخلية، سواء من جهة الحكومة العراقية المركزية، أم من جهة بعض الأطراف داخل الإقليم نفسه.
كما أن قسماً من هذه الضغوط يتم التعبير عنه من خلال المواقف المعلنة من جانب أنقرة وطهران، وعبر الاتصالات المشتركة، ولعل أبرزها زيارة رئيس أركان الجيش الإيراني إلى أنقرة، ولقاءاته مع المسؤولين الأتراك هناك.
من جهة أخرى، هناك الضغوط الدولية التي تجسدت في الاتصالات الأميركية والفرنسية، والموقف الأوروبي المتوجس بصورة عامة. وربما سنشهد في الأيام القادمة المزيد من المحاولات الهادفة إلى إقناع القيادة الكردستانية بتأجيل الموعد، الأمر الذي يستبعد القبول به من القيادة المعنية من دون ضمانات تؤكد تحديد موعد جديد قاطع للاستفتاء تلتزم به بغداد، وتضمنه الولايات المتحدة، ومعها الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي. ولكن هذا ليس معناه عدم وجود تحديات كبرى على مختلف المستويات.
فعلى المستوى الداخلي، ما زالت مسألة عدم تفعيل برلمان الإقليم تنتظر الحل، على رغم الجهود المكثفة التي بذلت، وتبذل، من أجل الوصول إلى حلٍ توافقي. ولكل طرف تفسيراته وحججه. ولكنْ في المحصلة، هناك إجماع على ضرورة انطلاقة البرلمان قبل 25 أيلول (سبتمبر) القادم، لكي يشرف على عملية الاستفتاء بكل جوانبها ومراحلها، ويتبنى نتائجها.
وما يُستشف من جملة المواقف والتحركات الخاصة بهذا الموضوع، هو أنه سيحل بطريقة ما، مع وجود رغبة مشتركة في الوصول إلى حلٍ توافقي بين جميع أطرف العملية السياسية في الإقليم.
أما على صعيد العلاقة مع بغداد، فهناك وجهة نظر تقول إن الاستفتاء سيضعف موقع رئيس الوزراء العراقي العبادي، ويقوّي موقف السياسيين العراقيين من الحزب الإيراني. ولكننا إذا دققنا في الوضع، لوجدنا أن التأثير الإيراني في الشؤون العراقية الداخلية ما زال فاعلاً. بل إن جانباً كبيراً من تشدد الحكومة العراقية في مواجهة إجراء ديموقراطي مشروع، كالاستفتاء، هو بفعل التأثيرات الإيرانية في العراق التي لها حساباتها الداخلية والإقليمية الخاصة بها، وهي بصورة عامة لا تتقاطع مع مصالح الشعب العراقي بكل مكوّناته.
فإيران تدرك أن موضوع استقلال إقليم كردستان سيعطي تركيا دوراً اقتصادياً أكبر في العراق ككل، وذلك بحكم التكامل الاقتصادي اللافت بين الإقليم وتركيا منذ نحو عقدين، الأمر الذي أسهم في تجاوز الكثير من الإشكاليات السياسية، بل عزز التفاهمات، وشكّل أرضية صلبة من الثقة المتبادلة التي ربما كان من شأنها تحريك العملية السياسية الداخلية في تركيا مجدداً، وذلك بهدف الوصول إلى حلٍ واقعي عادل للمسألة الكردية في تركيا.
ومن الطبيعي أن يمتد هذا التكامل إلى الداخل العراقي، بحكم علاقة الإقليم مع بغداد التي ينبغي أن تستمر طبيعية مستقرة جيدة، لمصلحة جميع المكونات العراقية، وبغض النظر عن المآلات التي ستكون بناء على نتيجة الاستفتاء.
كما أن الدور العربي، والخليجي تحديداً، سيكون أكثر بروزاً في إقليم كردستان العراق، والعراق عموماً، بفعل العلاقات المميزة بين الإقليم والدول الخليجية. وهذه العلاقات مرشحة للمزيد من الاتساع والتعمق، وبصورة خاصة في المجال الاقتصادي.
فالإقليم لديه إمكانات واعدة في مجال الزراعة والسياحة والصناعة النفطية. كما أنه يمتلك الكوادر المؤهلة أكاديمياً في مختلف الاختصاصات. ومن شأن الإقليم أن يمارس دوراً توازنياً بفضل علاقاته الجيدة مع أوساط واسعة ضمن الشيعة والسنة، بخاصة تلك غير الراضية عن التغلغل الإيراني في مختلف مفاصل الدولة والمجتمع العراقيين.
أما على الصعيد الدولي، فإن الولايات المتحدة، على رغم كل المواقف المعلنة، لن تفرّط بعلاقاتها مع الإقليم، ودورها فيه، لأنها تعتبره ركيزة التوازن في تعاملها مع كل من إيران وتركيا. ولن تكون أوروبا بعيدة من هذا التوجه في نهاية المطاف.
هذا في حين أن روسيا تحاول مسك العصا من الوسط، على أمل بأن تضمن لنفسها دوراً يراعي مصالحها في العراق والمنطقة بصورة عامة.
إقليم كردستان العراق ملزم بفعل عوامل الجغرافيا، والتاريخ، والثقافة، والدين، والمصالح الاقتصادية، والتداخل السكاني، بالسعي لبناء أفضل العلاقات مع دول المنطقة وشعوبها، سواء استمر في ظل النظام الاتحادي ضمن العراق، أم تحوّل بعد الاستفتاء إلى دولة مستقلة. وقد تلمست ذلك باستمرار من خلال لقاءاتي مع معظم القيادات من مختلف الأطراف السياسية. وقد أثبت الإقليم بالفعل قبل القول حرصه على تلك العلاقات، وأكد قدرته على التعامل مع سائر المكونات المجتمعية من دون أية عقد أو تمييز.
أما الهواجس التي تحملها لنا تصريحات ونتاجات قسم من السياسيين والكتّاب العرب حول الأخطار التي ستترتب على الاستفتاء، وربما على قرار استقلال الإقليم مستقبلاً، فهي في معظمها تستند إلى مفاعيل أيديولوجية لا تعترف بالآخر المختلف، ولا تقيم وزناً للوقائع والحقائق التاريخية والمعطيات السكانية والجغرافية، وانما تلتزم منطقاً رغبوياً، يتجاهل الواقع المأسوي الذي عاشه الكرد منذ تأسيس الدولة العراقية بعد الحرب العالمية الأولى، وينسى المجازر الوحشية الكبرى التي ارتكبت بحق الكرد تحت يافطة شعارات قوموية، كانت تغطية لصراعات شللية حزبية داخلية، اختُزلت لتتجسّد في شخصية الزعيم المؤله.
لننتظر نتائج استفتاء إقليم كردستان، ولنحترم قرار شعبه بكل مكوناته، ولنراهن على نضج قياداته التي تعلمت كثيراً من أخطائها، وأظهرت حنكة لافتة في إدارة الخلافات، والبحث عن حلول توافقية لها. فمشروع الإقليم هو في جوهره مشروع وطني، محوره احترام الآخر المختلف والاعتراف بحقوقه.
هناك أخطاء كثيرة في الإقليم من دون شك، ولكـــن فـــي المقابل هناك رغبة وإرادة في المعـالجة. فلنتفاءل بالخير لنجده في المنطقة بأسرها، التي أنهكتها مشاريع تطويع الواقع لمصلحة نزوات أيديولجية قوموية، مذهبية طائفية، لم تجلب لنا سوى القتل والدمار والتخلف الشامل.

التعليقات معطلة.