عبد اللطيف شاكور
كثيرون هم من لم يفهموا قواعد اللعبة في الشرق الأوسط، لكن متأملي التاريخ الحديث بعد سقوط الدولة العثمانية، يتضح لهم جليا أن صراع القوة بين الشرق الغرب لازال قائما منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، هذا الصراع الكلاسيكي بين الروس و الأمريكيين اتسع ليصبح صراعا بين الحلف الشرقي المنبثق (روسيا، الصين، إيران و تركيا) و حلفاء الغرب التاريخيين (الولايات المتحدة، فرنسا، إنجلترا و السعودية)، أما الدول الأخرى المساهمة في هذا الصراع، فهي إما لها دور مؤقت أو حليفة لأحد أعضاء الحلفين.
الأمس، كان يوما تاريخيا سيبقى راسخا في أذهان المراقبين و المتصارعين من أهل الساسة و المصالح، فقد قرر حلف الشرق أن يبرق برسالة واضحة، مفادها أن أخرجوا من الساحة السورية، فقد أرهقتم قواتنا بعد السنين السبع من القتال، القيادة السورية تعبت بعد كل الخسائر التي تكبدتها بسبب الحرب الدائرة منذ 2011، حرب إعلامية و استنزافية لم يصمد فيها إلا المؤمنون بتحالفاتهم، و كما سبق و أردفت في مقالات سابقة، سوريا تعتبر آخر قلاع الشرق المُحصِنة للإيرانيين، و الكابحة لجماح الغرب الهائج الحالم بسقوط الإمبراطورية الروسية و كبح جماح المارد الصيني.
تصريحات القيادة الإمريكية من فينة لأخرى بوجود تهديد حقيقي للسلطة العظمى للبيت الأبيض، اتضحت بعد الإفصاح عن الاستراتيجية الأمريكية النووية الجديدة التي تعتبر روسيا والصين عدوتين بكل وضوح، ناهيك عن سعي الإدارة الأمريكية إلى التراجع عن الاتفاق النووي الإيراني الذي اعتبرته في السابق إنجازا قوميا يحسب للرئيس السابق باراك أوباما. إتفاق بذلت فيه دول أوروبا جهودا جبارة لإخراجه من ردهات المفاوضات إلى أرض الواقع، لكن الحاكم الأمريكي يرى فيه اليوم انتصارا مذلا للإيرانيين، و بالتالي لحلفائهم، رغم أن القيادة الإيرانية لم تسعى لاسترجاع أموالها المجمدة بالخارج منذ ثلاثة عقود و التي فاقت المئة و خمسين مليار دولار، و فضلت أن تهديها للغرب لقاء تجديد أساطيلها الجوية و تطوير صناعتها المدنية، بمنح امتيازات كبيرة لكل المستثمرين الأوروبيين الراغبين في جني أرباح المستهلك الإيراني.
كل هذه المتغيرات، أعطت الضوء الأخضر للقيادة السورية من قبل حلفائها بالرد بكل حزم على كل الإنتهاكات الصهيونية للأراضي السورية. انتهاكات كانت دائما في مسعى دعم الجماعات المسلحة، وخاصة جبهة النصرة، التي ظلت لبضع سنين جارة للكيان الصهيوني على حدود هضبة الجولان، وكلنا تابع كيف كانت السلطات الصهيونية تجلي جرحى الجبهة، وتتكلف بمصاريف علاجهم علانية و بكل فخر. هذه الأحداث الميدانية، واكبتها أبواق الإعلام الخليجي، الداعية إلى جعل الجار الإيراني على رأس قائمة أعداء الأمة، بدل الصديق الصهيوني الذي أصبحت الكثير من الأنظمة العربي تجاهر بتبادل الزيارات الرسمية معه، كما ولي عهد آل سعود ولي عهد البحرين و الرئيس المصري الذي يصنف رأس بيادق الخليج، و الطفل المدلل للبيت الأبيض.
البيت الأبيض، و بعد الخطأ الفادح بدعم استقلال الأكراد استنادا إلى إملاءات صهيونية و خليجية، يجني اليوم ثمار مغالطاته، فالزعيم التركي الذي كان بالأمس مساندا رسميا لإسقاط النظام السوري، دخل الساحة السورية براً لمحاربة مقاتلي “قسد” (قوات سوريا الديمقراطية) دون المساس بأي جندي نظامي، و هو دلالة على بداية صفحة جديدة في العلاقة السورية-التركية، التي ظلت على المحك لسبع سنين. القرار التركي بالانضمام إلى الحلف الشرقي لم يكن قرارا سهلا، فتراكم الأحداث و المضايقات الغربية في الكثير من القضايا دفعت بالقيادة التركية إلى إعادة حساباتها، أحداث كان أولها و أهمها محاولة الإنقلاب الفاشلة التي سكت خلالها كل الغرب في انتظار نتيجة الإنقلاب، لكن حلف الشرق كان سباقا في التنديد، تلاها إعلان استقلال كردستان العراق، دولة الورق هاته، التي تلقت دعما صهيونيا و أمريكية و سعوديا لم ترق للأتراك الذين وجدوا ضالتهم في الموقف الروسي و الإيراني و السوري، فالقيادة السورية لحد اليوم، لم تصدر قرارا واضحا بعدم رضاها عن التدخل التركي تجاه الأكراد الذين بذلوا كل عزيز لدحر “داعش” من الشمال السوري، و لم يدخلوا في مناوشات مع النظام السوري في عز أزمته نهاية 2015، فكان آخر الأحداث المهمة، استرجاع جثمان الطيار الروسي الذي فقد حياته نتيجة إسقاط طائرته الأسبوع المنصرم، فحسب الكريملين، ما كان للروس استرجاع جثمان الطيار لولا جهود الأتراك و فصائلهم المسلحة على الساحة السورية.
لكن المفاجأة الكبرى بعد إسقاط F16 الصهيونية فوق الأراضي المحتلة، لم يكن الإفصاح عن تقنية الإعتراض و لا سرعة الرد السوري و نباهة مقاتليه، بل طلب الصهاينة التدخل العاجل للحيلولة دون دخول حزب الله على خط المواجهة، حسب موقع RT الروسية و بعض المواقع الإلكترونية نقلا عن الإعلام الصهيوني، تلاه بيان حركة حماس، للتعبير عن جاهزيتها لمواجهة أي عدوان صهيوني على قطاع غزة، معبرة عن تضامنها مع الجيش السوري في مواجهة العدوان الصهيوني، دون الحديث عن الموقف المندد للنظام الإيراني بالعدوان و تأكيد الكريملين على أحقية الجيش السوري على الدفاع عن سيادة أجوائه الملاحية. كل هذه المواقف و الأحداث الآنية كان لها صدا فعال في أروقة البيت الأبيض، فالمفهوم الجديد لقواعد اللعبة تغير، و أي مواجهة قادمة، لن يستفرد فيها الصهاينة بجبهة معينة، بل سيكون عليهم الإستعداد لمواجهة ثلاثة جبهات على أقل تقدير، أخطرها الجبهة الشمالية، تليها الجنوبية، فجبهة الجولان السوري المحتل.