اسمان (ينبغي أن) لا يلفّهما النسيان

1

 
حازم صاغية
 
اليوم، فيما تُشحذ السكاكين في وجه الديمقراطيّة والليبراليّة، يحتلّ يافِل أداموفيتش وجاو جيانغ مكانيهما في ضمير الحرّيّة والأحرار للوهلة الأولى، لا يبدو هناك ما يجمع بين اسمي البولنديّ بافِل أداموفيتش والصينيّ جاو جيانغ سوى أنّ وكالات الأنباء والصحف والمواقع الإلكترونيّة ردّدت الاسمين في أخبار الأسبوع الفائت.
أوّلهما، أداموفيتش، محافظ مدينة غدانسك البحريّة التي انطلقت منها التحرّكات المناهضة للنظام الشيوعيّ والنفوذ السوفياتيّ، والتي ما لبثت أن أسقطت الإثنين. لقد كان أداموفيتش ليبراليّاً وشديد الحماسة للاندماج البولنديّ في أوروبا وللانفتاح على الآخر المختلف. شارك في التحرّكات الطلاّبيّة التي انطلقت عام 1988 على نطاق واسع، وتأدّى عنها قيام الجمهوريّة والنظام الديمقراطيّين في السنة التالية. في 2002 انتسب إلى “المنبر المدنيّ”، أبرز الأصوات الليبراليّة في بولندا وعموم أوروبا الوسطى، وانتُخب غير مرّة محافظاً لمدينته، كما بات أحد الرموز المؤثّرة في النظام الذي حكم بلده حتّى 2015. في هذا العام الأخير فاز في الانتخابات العامّة “حزب القانون والعدالة” الشعبويّ والقوميّ المناهض للهجرة ولأوروبا واتّحادها.
أداموفيتش – وهو واحد من أصلب نقّاد العهد الجديد – قضى مطعوناً بالسكّين قبل أيّام. حصل ذلك فيما كان واقفاً على خشبة مسرح، يرعى حفلاً سنويّاً تُجمع خلاله التبرّعات لشراء أدوية ومعدّات طبّيّة يستفيد منها أطفال العائلات الفقيرة. رمزيّة الحدث لا يعوزها الإيضاح والتفسير.
ثانيهما، جاو جيانغ، تولّى الأمانة العامّة للحزب الشيوعيّ الصينيّ في 1987، بعد تولّيه عدداً من المناصب الرفيعة في الحزب والدولة، في عدادها رئاسة الحكومة. جيانغ كان أحد أبرز “أبناء” القائد الإصلاحيّ دنغ هشياو بنغ، وأكثر من وضع إصلاحاته الاقتصاديّة موضع التنفيذ.
مشكلته مع حزبه انفجرت في أواسط 1989 مع تظاهرات ساحة تيان أن مين الشهيرة، حيث تفرّد برفضه “العلاج بالقمع”. آنذاك أزاحه الحزب وعزف دنغ هشياو بنغ، الذي كان قد تقاعد رسميّاً، عن استخدام سلطته المعنويّة في دعمه. القادة الشيوعيّون كلّهم أجمعوا على أنّ أمينهم العام ارتكب “أخطاء جدّيّة” برفضه اعتماد القمع في الساحة المذكورة. لقد جمع بينهم الخوف من فقدان السلطة، وكانت الإصلاحات الغورباتشوفيّة وما رافقها من فوضى في روسيّا قد أثارت رعبهم من “الانفلات”. هكذا عُزل جاو جيانغ ومُنع من مغادرة بيته حتّى وفاته بذبحة قلبيّة في 2005.
مؤخّراً، مع ذكرى رحيله، تجمّع عدد ممّن عاصروا تلك الحقبة وآثروا تكريم وجهها الناصع. لقد اتّجهوا إلى منزله وسط التضييق الرسميّ الذي جعل اسمه مجهولاً بالكامل في أوساط الأجيال الأصغر سنّاً.
القاسم المشترك بين المحافظ البولنديّ والأمين العام الصينيّ أنّهما ذهبا ضحّيّتين من ضحايا الديمقراطيّة الكثيرين: أوّلهما قُتل مادّيّاً، والثاني قُتل معنويّاً بأن أُبعد من منصبه قبل أن يُحذَف كلّيّاً من كتب التاريخ ومن ذاكرة الشعب الصينيّ. عند أداموفيتش، لا تستقيم الديمقراطيّة والقوميّة الشعبويّة، إذ الأخيرة تقود البلد، عاجلاً أو آجلاً، إلى لون ما من الاستبداد والسلطويّة. عند جيانغ، لا تعيش الرأسماليّة – التي حلّت محلّ شيوعيّة ماو تسي تونغ – بالقمع: قد تعيش هكذا لفترة، إلاّ أنّ الديمقراطيّة تبقى الشرط الشارط والطويل الأمد للرفاه والازدهار.
هذان الاسمان يكسبان كامل أهميّتهما انطلاقاً من طبيعة المرحلة، لا في بلديهما فحسب، بل في العالم بأسره. فاليوم، فيما تُشحذ السكاكين في وجه الديمقراطيّة والليبراليّة، يحتلّ يافِل أداموفيتش وجاو جيانغ مكانيهما في ضمير الحرّيّة والأحرار.

التعليقات معطلة.