ليس جديدًا على الكيان الإسرائيلي أن يحوّل الكارثة إلى فرصة، ولا أن يختبر الخرائط الهشّة بحثًا عن مخارج لأزماته البنيوية. الجديد اليوم هو فجاجة الطرح: اعترافٌ بإقليمٍ متنازع عليه دوليًا، مقابل حلٍّ “جغرافي” لقضيةٍ إنسانية وسياسية كبرى، عبر ترحيل سكان غزة إلى أرض الصومال. هكذا، ببساطة استعمارية قديمة، يُعاد إنتاج فكرة التهجير بوصفها صفقة سياسية.
الحديث عن “أرض الصومال” ليس تفصيلاً عابرًا. نحن أمام إقليم لم يحظَ باعتراف دولي، يعيش هشاشة سياسية واقتصادية، ويقع على مفترق طرق بحرية حسّاسة. اعتراف إسرائيلي محتمل به ليس كرمًا دبلوماسيًا، بل استثمارًا في الفراغ القانوني، واختراقًا جديدًا للقرن الإفريقي، تحت لافتة الاعتراف مقابل التوطين. إنها معادلة استعمارية كلاسيكية: شرعنة كيان مقابل اقتلاع شعب.
أما غزة، فليست “مشكلة سكانية” تبحث عن مساحة. هي جرح مفتوح، وقضية سياسية ذات جذور وحقوق واضحة. تحويلها إلى ملف لوجستي، ونقل أهلها كما تُنقل البضائع، ليس سوى امتداد لمنطق الإبادة البطيئة: تدمير المكان ثم الادّعاء بأن الحل هو إخراج البشر منه. ما يُسوَّق بوصفه “حلًا إنسانيًا” ليس إلا تهجيرًا قسريًا مغلفًا بخطاب براغماتي.
اللافت أن هذا التفكير لا يولد في فراغ. هو ثمرة لحالة تواطؤ دولي وصمتٍ مريب، سمحا لإسرائيل بأن ترفع سقف اختباراتها: من التطبيع إلى الضم، ومن الحصار إلى التهجير. حين يغيب الردع السياسي والقانوني، يتحول غير المعقول إلى “قابل للنقاش”، وتصبح الجرائم “خيارات”.
وفي خلفية المشهد، يظهر البُعد الأمني والاقتصادي. القرن الإفريقي بوابته بحرية، وغزة عبء ديمغرافي في الحسابات الإسرائيلية. الصفقة المقترحة تُريح إسرائيل من سكان غزة، وتمنحها موطئ قدم جديدًا على البحر الأحمر، وتُغري إقليمًا فقيرًا بوعد الاعتراف. إنها لعبة مصالح عارية، لا مكان فيها للحقوق ولا للإنسان.
لكن الخطة، مهما بدت وقحة، تصطدم بحقائق صلبة. تهجير شعب كامل لا يُمحى بتوقيع اعتراف، ولا يُمرَّر دون كلفة. وأرض الصومال، مهما كانت هشاشتها، ليست سلة نفايات للمآسي المصنَّعة. كما أن تحويل غزة إلى “ملف منقول” لن يطوي قضيتها، بل سيُفجّرها في ساحات جديدة.
أن ما يُطرح اليوم ليس حلًا، بل هروبٌ إلى الأمام. اعترافٌ مقابل تهجير، شرعنةٌ مقابل اقتلاع، وسياسةٌ تُدار بعقلية الصفقات لا بعدالة الحقوق. هكذا يخطط الكيان عندما يُترك بلا مساءلة. وهكذا تُصنع الكوارث حين يصمت العالم .

