غزت الأسواق السورية “الموبايلات” المهربة من العراق ومناطق سيطرة الأكراد شرق سوريا، وكذلك من لبنان الذي تأتي منه الكميات الأكبر، علماً أن سوريا ليست عاجزة عن استيراد تلك الأجهزة، بل تأتي بالأحدث أيضاً، وهذا متاح على الدوام، إذ لا ينسى السوريون كيف وجد “آيفون” بإصداره الأخير طريقه إلى بلادهم قبل أن يصل إلى أي مكان آخر في المنطقة. تلك واحدةٌ من أعنف مفارقات الحرب في سوريا. المفارقة التي تعزز غرابة المشهد بالنسبة إلى بلد يفترض أنّ الحصار يخنقه، وضمناً التكنولوجي، أن أجهزة شركات الهواتف المحمولة على كثرتها تصل إلى السوق السورية حال طرحها في البلدان الأم.وكما نجحت الحكومة في تحويل السيارة إلى حلم، نجحت في تحويل “الموبايل” كذلك، فصار حلماً للسوريين، وذلك لأنّ سوريا “المجتهدة” بمُنَظّري اقتصاد الحرب فيها وجدت ضرورة فرض رسوم على تلك الأجهزة ليسمح لها بالعمل على الشبكة الخلوية السورية. ولم تكن ثمة مشكلة في فرض رسوم على الأجهزة، رسوم نقل وشحن مثلاً، ولكن الحكومة فرضت رسوم “جمارك”، فصار سعر “الموبايل” في سوريا أضعاف سعره في الشركة المصنعة، لتغدو سوريا بلداً يربح في شيء لا يصنعه أكثر مما يربح الصانع الأساس.
مضطرّون لا مختارونيكفي القول مثلاً إنّ جهازاً من نوع “آيفون” الذي يباع في دول الجوار القريبة بألف دولار، يباع في سوريا بـ2400 دولار، وينسحب الأمر على كل جهاز “موبايل” مهما قلّ أو غلا ثمنه، فعوض أن يشتري السوري اليوم هاتفه بمليون ليرة سورية، عليه أن يشتريه بمليونين أو مليونين ونصف المليون، ولا أحد يعلم لماذا، ولمن تذهب تلك الأموال الطائلة، في تحدٍ لكل الأنظمة والقوانين العالمية المعمول بها في إطار تنظيم الاتصالات.
ذلك الأمر أدى الى طغيان بيع الأجهزة المهربة بنسبة عشرات الأضعاف عن الأجهزة المرخصة، باعتبار أنّ “الموبايل” يكون بنصف السعر في سوريا، وبالطبع شراء الجهاز مهرباً أو نظامياً من الخارج لا يعني أنّ الجهاز سيعمل على الشبكة قبل دفع رسومه الجمركية. لذا، يعطى حامل الجهاز مهلة شهرين لاستخدامه على الشبكة، ثم تنقطع عنه وتبدأ شركة الاتصالات بإرسال الرسائل لصاحب الجهاز ليجمركه.
القانون حيال المستخدم… أثمان باهظة
من حسن حظ السوريين أن لا ملاحقة أمنية لهم بسبب استخدام جهاز غير مجمرك، وإلّا كانت السلطات لاحقت نصف الشعب. وقد وجد كثيرون حلاً وسطياً يرضي حاجاتهم، وهو أن يحملوا جهازين، أحدهما خفيف السعر (غالباً يكون من نوع نوكيا)، وعبره يجرون الاتصالات، وآخر غير مجمرك ويكون حديثاً ويقدم لهم الخدمات المطلوبة من تقنيات التواصل الحديثة والتخزين والكاميرا الجيدة والتصفح. بيدَ أنّ ذاك السوري إذا فكر ببيع هاتفه غير المجمرك، فحينها سيعرّض نفسه للخطر والملاحقة والاعتقال وأحكام قضائية متنوعة، ومنها ما هو مشدد، لأنّ ذلك يصبح اتجاراً بمواد مهربة، والمشكلة الأكبر تقع على رأس صاحب محل الاتصالات الذي يفكر بشراء جهاز غير مجمرك أو بيعه، حينها، ببساطة، كما يقول السوريون: “سيدفع ما فوقه وتحته ليتخلص من الكارثة”.
معين أيوب شاب من حمص، يروي لـ”النهار العربي” عن مداهمة أمنية تعرض لها محل اتصالات لصديقه بسبب قضية الأجهزة غير المجمركة، يقول: “داهمت دوريات أمنية معززة محلاً لصديقي في حمص، وفعلاً كان قد باع سابقاً جهازاً غير مجمرك لأحد الأشخاص. المداهمة انتهت باعتقاله ومصادرة بضائع المحل، ظلّ موقوفاً لفترة، وحين خرج أخبرني أنّه لم يتعرض لتعذيب خلال التحقيق ولكن لم يخرج قبل أن يدفع غرامة هائلة أُقرّت ضده، وبالمناسبة خرج وأغلق محله نهائياً نظراً إلى فداحة الخسارة”.
توزيع القطاعات
من المعروف أنّ واحدة من سياسات الاقتصاد في الحرب جعلت الحكومة توكّل أشخاصاً معينين بقطاعات مختلفة بالنيابة الجزئية عنها، وعليه كانت الاتصالات من حصة أحد رجال الأعمال البارزين، وهذا ما يفسر وجود شركة اتصالات وحيدة فقط في سوريا، هي المعنية حصراً ببيع الأجهزة الخلوية الجديدة، وهي نفسها مصدر التوريد لمحال الباعة المتفرقين، والقانون المعمول به في هذا الشأن هو منع شراء أو بيع أي جهاز من قبل أي محل اتصالات ما لم تحمل “علبة” الجهاز ختم الشركة تلك. قطاع الاتصالات، ربطاً به الأجهزة كعمادٍ لتشغيله، يعتبر واحداً من أكثر القطاعات الاستراتيجية حساسيةً في ظل شبه انعدام الموارد الأساسية في سوريا، ما يطرح تساؤلات بالجملة عن ذلك القطاع الإثرائي الذي تعادل أرباحه أهم الصناعات على الإطلاق.
تبريرات غير مقبولةمصدر مطلع قال لـ”النهار العربي” إنّ قضية الاتصالات تم تطويعها لخدمة الظرف العام في ظل الإنهاك الاقتصادي الذي تعيشه سوريا: “اليوم الدولة مطالبة بتعزيز موازنتها بشكل سيادي يضمن استمرار تقديم الخدمات الأساسية لمواطنيها ولو كان ذلك بحدوده الدنيا، وفي ظلّ غياب الموارد الرئيسية كالنفط وانهيار الصناعة والإنتاج كان لا بد من إيجاد حلول (موقتة) لاستمرار تغذية الشأن التنفيذي إلى جانب إجراءات أخرى تم ويتم اتخاذها تباعاً”. ورغم أنّ الحكومة بشكلها غير الرسمي لم تقدم تبريرات مباشرة لملفات مشابهة، ورغم أنّ الحصول على تسريبات تحمل معلومات ممكن، ولكن في كل الأحوال ثمة دائماً رواية للدولة، ولكن العبرة في الناس، فهل يقتنعون بتلك المبررات؟ يبدو ذلك غير ممكن في أي شكل، ففي وقت تغلي الأسعار في سوريا إثر قرارات رفع الدعم الأخيرة، ما عاد المواطنون قادرين على الصبر أكثر، يريدون أن يكونوا شركاء في المعرفة على الأقل، في معرفة مصير الموارد الجديدة، ولماذا عليهم في عزّ قهرهم أن يُحرموا من أشياء صارت أقلّ من كماليات؟ هذا ما قاله كثر لـ”النهار العربي”.
“نعمل على دمنا”“
نعم، نحن نعمل بالمهرب، ولكن من تحت الطاولة وعلى أعصابنا ودمنا، فمن سيدفع ملايين الملايين ثمناً لجهاز والناس لا تجد ما تأكله”، يقول أحد أصحاب محال الاتصالات في دمشق طالباً عدم الكشف عن اسمه. ويعزو سبب نشاط هذا السوق إلى أخطاء حكومية يصفها بالكارثية، جعلت الهوة الواسعة بين المهرب والمجمرك أكبر من أن تستطيع جيوب المواطنين حملها، ويقول: “يؤسفني القول إنّ ما يحصل الآن هو نتيجة سياسة حكومية قائمة على الجباية والبلطجة وتحويل الموبايل إلى حلم”. ويضيف: “الآن حين يتم اعتقال شخص باع جهازاً مهرباً، فالقضية ليست أنّ الجهاز مهرب بل إنّه غير مجمرك (لماذا لديك جهاز ليس مجمركاً)، بمعنى آخر المشكلة في أنّ حصة الحكومة غير محفوظة، لذا سيواجه “المذنب” إما حكماً قضائياً أو غرامة هائلة أو الاثنين معاً، ولكن بكل الأحوال سيكون هناك توقيف قد يستمر أشهراً”.
سباق الحكومة مع السّوريين
المشكلة تخطّت في مكان ما كون الأجهزة غير مجمركة أو مجمركة ومهربة، لتكون أنّها مهربة وغير مجمركة ولكنّها تعمل على الشبكة بصورة طبيعية، وهذا ما وضع قطاع الاتصالات في مأزق كبير. جعل “الموبايل” بتلك الصورة هو أمرٌ متاحٌ تكنولوجياً، وسرعان ما أتقنه سوريون كثر، وهو يعتبر في القانون احتيالاً على القوانين نفسها. تتم تلك العملية عبر كسر رقم المعرف الخاص لكل جهاز، وذلك لأنّ كل جهاز يحمل رقماً تعريفياً معيناً، هذا الرقم هو ما يرتبط على الشبكة للسماح للجهاز بالعمل بعد دفع رسومه. حين يشتري شخص جهازاً غير مجمرك، تصله رسالة من الاتصالات بضرورة جمركة جهازه، فيتجه إلى شركة “سيرياتيل” مع “علبة” الجهاز، وهناك يأخذون منه الرسوم ويقومون بجمركة جهازه وجعله قابلاً للعمل على الشبكة باستمرار من دون انقطاع استناداً إلى رقم المعرف الخاص.
جمركة غير شرعيّة واستفاقة حكوميّة
هذا الرقم التعريفي ثمّة طريقة تقنية لما يُسمى بـ”كسره”، أي استخدام معدات تقنية وتكنولوجية لتغييره ومسحه من الجهاز ووضع رقم آخر بديله، ويكون الرقم الجديد قابلاً للعمل نظامياً على الشبكة، وذلك الرقم يكون عائداً لجهاز مخرّب أو مسروق أو رخيص الثمن أو قديم للغاية أو احتمالات أخرى. يجري سحب هذا الرقم وحقنه بالجهاز الجديد، وهكذا يعمل الجهاز وكأنّه طبيعي من دون مشكلات، ما سبب إرهاقاً ومشكلات بالجملة للاتصالات، باعتبار أنّ شريحة كبرى لجأت إلى هذا الخيار، وهذا الخيار بطبيعة الحال لا يكلف سوى بضعة دولارات، لكنّه يتم سرياً للغاية، لأنّ الكشف عنه يورط صاحب الجهاز والمبرمج بعقوبات قانونية مشددة. تلك العملية كلّها تعرف باسم “كسر الآيمي” أو “جمركة برانيّة”، وتبحث الأجهزة الأمنية صباح مساء عن الخبراء والمتورطين بها وتقوم باعتقالهم، ما يجعل عملهم يتخذ طابع السرية أكثر مع مرور الأيام، وقد نجح هذا الأسلوب في تشغيل الأجهزة لسنوات طويلة. الآن وجدت السلطة في الأسابيع الماضية أسلوباً تقنياً شديد الاحترافية، يوحي شكله العام بأنّه جاء نتيجة تمازج خبرات سورية وغير سورية، مكّنها هذا الأسلوب الجديد من الوصول إلى كل الأجهزة المكسورة الرقم التعريفي ومراسلة أصحابها ومنحهم مهلة شهر لجمركة أجهزتهم أو معاقبتهم حتى 3 سنوات سجن بموجب مرسوم رئاسي.