اقتصاد الزمن

3

هل يمكن للزمن أن يصبح سلعة؟

قد يبدو السؤال غريباً، لكنه يعكس ما نعيشه اليوم، وهو ما يعيد إلى الذاكرة لوحة الفنان سلفادور دالي «إصرار الذاكرة»، التي تصور سيولة الزمن ونسبيته وأنه كيان متغير ومرن، وسريالية الوقت في زمن مكتظ بالحركة واختزال المسافات، اللوحة التي رسمها دالي منذ قرابة قرن من الزمن، ما زالت تعكس -بشكل ديناميكي- زمناً معاصراً يتحوّل فيه المستقبل إلى مشروع يُدار كما تُدار التروس بلا توقف، غير أن السؤال الأعمق الذي يبقى مطروحاً: ما الذي نخسره حين نكسب الزمن؟ وهل يكفي أن نضاعف السرعة لنملك المستقبل، أم أن الإنسان يمتلئ بالهشاشة على هامش السرعة وضياع المعنى؟

في المجتمعات الحديثة اليوم تغيرت مفاهيم القوة والبقاء، متجاوزة التناسل المحموم لما نملك من موارد وقوة وتسليح إلى إتقان لعبة التحكم في الزمن، فكل ما يحيط بنا قائم على ضغط اللحظة وتسريع وتيرة العمليات واختصار المسافات، إذ تحول الزمن إلى مورد اقتصادي بامتياز، يُدار ويُستثمر كما تُدار الأموال، وهذا ما يمكن تسميته بـ«اقتصاد الزمن»، الذي أُعرفه في هذا السياق بأنه فن تحويل اللحظة من وحدة قياس إلى مورد للوجود.

وفي كتابه «الحداثة المتجذرة»، يُلمح عالم الاجتماع الفرنسي «ألان تورين» إلى هذا التحول حين يتحدث عن الحداثة بوصفها مشروعاً لإعادة تعريف علاقتنا بالزمن؛ فالمستقبل في المجتمعات الحديثة لم يعد انتظاراً طبيعياً لتدفق الأيام، بل أصبح مشروعاً إدارياً يُخطط له مسبقاً، تعبّد له الطرق وتُرصف له الأرقام، أما الحاضر فقد انكمش إلى مجرد ممر سريع، ونقطة عبور إلى ما هو آتٍ.

لكن اقتصاد الزمن هذا، برغم ما يحمله من إنجازات، يضعنا أمام توتر داخلي عميق، فكلما أسرعنا أكثر، وجدنا أنفسنا نفتقد إلى المعنى، فإن اختزال الزمن إلى أرقام ونِسب يجعل اللحظة الإنسانية هشة، لأن الإنسان لا يعيش بالسرعة وحدها، بل بالذاكرة والتأمل، وفي هذا السياق يمكن أن نتحدث عن طغيان السرعة التي لا يمكن اعتبارها مجرد أداة للتقنية، إذ إنها ثقافة شاملة تفرض علينا تصوراً جديداً للعالم، وتعيد تشكيل فهمنا فيصبح كل ما هو بطيء متخلف، وكل ما هو سريع متقدم، غير أن هذا التصور يُهمّش جانباً أساسياً من وجودنا، وهو الحاجة إلى البطء والروية من أجل الفهم، ومن أجل تكوين علاقات ذات مغزى.. وفي مجتمعاتنا العربية، والخليجية خصوصاً، يظهر هذا الاقتصاد الزمني بشكل جلي، فالمشاريع العملاقة، والسباق نحو تقنيات المستقبل، وإدارة الموارد بأقصى درجات الكفاءة، كلها مؤشرات على انخراطنا العميق في منطق السرعة، وعليه فإننا بحاجة إلى إرساء مفهوم جديد للتوازن، بأن يكون هناك اقتصاد للمعنى يوازي اقتصاد الزمن، بحيث نعيد الاعتبار للمجالات التي لا تُختزل في نسب النمو، كالتربية والثقافة والذاكرة والعلاقات الإنسانية، وهذه المجالات ليست ترفاً، بل هي الضمان الوحيد لكي لا يتحول الزمن إلى فراغ متسارع.

لقد أثبتت التجارب العالمية أن السرعة وحدها لا تحمي المجتمعات في لحظات الأزمات، فما يرسخ هو قدرة هذه المجتمعات على إعادة ملء الزمن بالمعنى، حتى ولو كان زمناً قصيراً، وهنا تظهر أهمية ما يمكن تسميته بالهشاشة الكامنة، من خلال الاعتراف بأن الإنسان كائن يحتاج إلى البطء بقدر حاجته إلى التسارع، فالقوة لا تأتي من سحق الهشاشة، بل من دمجها في مشروع الحداثة نفسه.

وفي النهاية، إذا كان اقتصاد الزمن هو العلامة الأبرز لعصرنا، فإن امتحانه الحقيقي هو قدرته على أن يظل اقتصاداً إنسانياً، لا ثقباً أسود يبتلع اللحظات ويلفظها إلى فضاء اللاوعي، فالمستقبل لا يحتاج إلى إتقان مبدأ السرعة فحسب، بل إلى وقت يتسع للمعنى، وإلى إنسان يعرف أن الزمن لا يُختصر بالأرقام وحدها، بل بما يحمله من أثر وذاكرة!

التعليقات معطلة.