الآليات الجديدة للسياسة الأميركية

1

د. جاسم الصفار
ما الذي تغير في العلاقة بين الولايات المتحدة الأميركية من جهة وروسيا والصين من الجهة الأخرى؟ وهل أن ما يحصل هو تجليات سياسة خارجية جديدة تتميز بها إدارة بايدن عن من سبقها؟ وهل من الممكن أن يكون هنالك تغير جذري في هذه السياسة الخارجية، لها انعكاساتها على النظام العالمي، في دولة تتحكم في سياستها مؤسسات راسخة تشكل منظومة الدولة العميقة؟ هذا ما سأحاول أن ألقي عليه الضوء في مقالي المتواضع.
تم الإعلان عن الاجتماع الذي استمر يومين بين وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف ونظيره الصيني وانغ يي في نفس اليوم الذي بدأت فيه المحادثات بين الصين والولايات المتحدة في ألاسكا. وعلى الرغم من التكهنات بشأن التوقيت، تنفي بكين أن زيارة لافروف موجهة ضد أطراف ثالثة أو أن لها أي علاقة بالمفاوضات مع الولايات المتحدة في ألاسكا. هذا مع أن لافروف ووانغ في لقائهما آخر مرة في أيلول الماضي على هامش قمة منظمة شنغهاي للتعاون في موسكو كانا قد أكدا حينها أن روسيا والصين تقدمان رداً فعالاً على هجمات “القوى المتطرفة” في الولايات المتحدة.
وبالتوافق مع تعهدات الرئيس الأميركي جو بايدن بتوحيد الحلفاء القريبين في توجهاتهم المناهضة لروسيا والصين، اجتمع الناتو الشهر الماضي لمناقشة أمن دول حلف شمال الأطلسي للفترة حتى عام 2030. وفي إطار هذا الاجتماع، جرى توصيف بكين وموسكو على أنهما يتصدران « أكبر تهديد للنظام العالمي القائم على سيادة القانون». وسبق أن وصفت الولايات المتحدة الصين، في شهر كانون الأول الماضي، بأنها «أكبر تهديد للديمقراطية والحرية في جميع أنحاء العالم».
وتجدر الإشارة الى أن إدارة بايدن كانت قد شنت هجوماً عنيفاً على روسيا والصين بنشرها في آذار الماضي وثيقة منهجية تعرف، بالدليل الستراتيجي للأمن القومي، الذي يعطي الأولوية لـ «مواجهة الصين وروسيا والدول الاستبدادية الأخرى». وقد صدرت هذه الوثيقة بعد يوم من فرض الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوبات على روسيا بسبب اتهامها للأخيرة بتسميم وسجن المعارض الروسي أليكسي نافالني. وفي 17 آذار، وسعت واشنطن العقوبات على روسيا، وشدّدت الضوابط على الصادرات. وفي نفس اليوم، وصف بايدن، في لقاء متلفز، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أنه «قاتل».
كانت الصين أيضاً هدفاً لزيادة العقوبات الأميركية عليها في شهر آذار الماضي، حيث وسعت الولايات المتحدة العقوبات التي فرضتها على المسؤولين الصينيين العام الماضي بشأن قانون الحكم الذاتي في هونغ كونغ وأضافت 24 شخصية رسمية صينية إلى القائمة. حدث هذا قبل يوم من المحادثات الاميركية الصينية في ألاسكا، التي جرت في 18-19 آذار، كأول اجتماع مباشر بين المسؤولين الأميركيين والصينيين خلال رئاسة بايدن وكما تبين فيما بعد، كان للعقوبات أثر كبير في إضفاء أجواء متوترة على المحادثات.
كل هذا يشير الى أن المحاولات الأخيرة من قبل الصين وروسيا لتحسين العلاقات مع الولايات المتحدة بعد انتخاب جو بايدن رئيسا للولايات المتحدة الأميركية، قد ذهبت سدى. فبدلاً عن التعامل الإيجابي مع تلك المحاولات، أرسل بايدن مسؤولين أمريكيين كبار في رحلات دبلوماسية لإقناع اليابان وكوريا الجنوبية والهند بالانضمام إلى التحالف الأميركي ضد “السياسة العدوانية» التي تمارسها الصين. وجرى توقيت تلك الزيارات لتأتي في أعقاب القمة الرسمية الأولى للحوار الأمني ​​الرباعي، حيث ناقش قادة اليابان وأستراليا والهند والولايات المتحدة «السياسة العدوانية» للصين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ وتعهدوا بالتعاون في دبلوماسية اللقاحات وتطوير شبكات 5G وغيرها من تقنيات لمقاومة تأثير الصين.
في المقابل، كانت زيارة لافروف للصين بعد انتهاء رحلته إلى الشرق الأوسط أكثر من مجرد حدث دبلوماسي عادي. فمنذ أيلول من العام الماضي، كان الدبلوماسيون الروس والصينيون على تواصل شهري منتظم، أجروا خلاله خمس مكالمات هاتفية على الأقل، مما يشير إلى مستوى التنسيق في العلاقة بين الطرفين.
خلال المحادثات التي عقدت يومي 22 و23 مارس\اذار، شدّد لافروف ووانغ على أن التعاون بين روسيا والصين لا يزال قوياً ونشطاً. وأن كلا البلدين «يعارضان الألعاب الجيوسياسية والعقوبات غير القانونية أحادية الجانب». ورفض وانغ خلال محادثاته مع لافروف «الأكاذيب» التي تروجها «حفنة من القوى الأوروبية» ضد روسيا والصين، وأدان أي محاولات للتدخل في الشؤون الداخلية للبلدين. بالإضافة إلى ذلك، حذّر لافروف الدول الغربية، بأجنداتها الأيديولوجية، من أنهم «يقفون في الجانب الخطأ من التاريخ».
كما أكد لافروف ووانغ أن بلديهما يحافظان على نظام دولي قائم على القيم الإنسانية العالمية والديمقراطية والمساواة والحرية، وأبرزا أهمية دور الأمم المتحدة في النظام الدولي القائم، علاوة على ذلك، ناقش وانغ ولافروف، بناء على مستجدات الوضع الدولي، ضرورة الإعداد لمفاوضات على أعلى مستوى، ووافقوا أيضاً على تمديد معاهدة الصداقة الروسية الصينية الموقعة في عام 2001، بالإضافة إلى ذلك، قال لافروف، ردا على دعوة بايدن التي أشرت إليها أعلاه، إن على موسكو وبكين «حشد الدول ذات التفكير المماثل» لدعم مبادئ الأمم المتحدة.
خلال المحادثات في ألاسكا، كشفت الصين عن تهافت القيم الديمقراطية الأميركية في قضايا كالعنصرية وحق التعبير والاقتراع العام، فرداً على وصف واشنطن لكلا البلدين، روسيا والصين، بالسلطوية واتهامها بكين بارتكاب إبادة جماعية في شينجيانغ، وضعت موسكو وبكين الولايات المتحدة في دائرة الضوء في ملف حقوق الإنسان بسبب التاريخ العنصري للدولة الأميركية، الذي كان من تبعاته انطلاق حركة « حياة السود لها أهمية».
يتفق الخبراء الروس والصينيون على أن زيارة لافروف عملت على تعزيز التعاون الستراتيجي بين البلدين إضافة الى أهميتها الدولية. فعلى سبيل المثال، أكد إيغور دينيسوف، كبير الباحثين في معهد الدراسات الدولية في MGIMO، أن الاجتماع “بشرى سارة للعلاقات الروسية الصينية والعالم بأسره، ويعكس محاولات لبعث الاستقرار في عالم غير مستقر”.
وتجدر الإشارة الى أن نطاق التعاون الستراتيجي بين الصين وروسيا شمل مشروع محطة الأبحاث القمرية، والتجارب السريرية للقاحات المضادة لفايروس كورونا، والإجراءات التي يمكن اتخاذها لمواجهة أخطار اندلاع “الثورات الملونة” بتحريض وتنظيم غربيين، فضلاً عن التوسع في التجارة والسياحة الصينية في شبه جزيرة القرم، وكما قال وانغ يي، “بغض النظر عن طبيعة التغيرات العالمية، ستتوسع علاقتنا وتقوي في جميع الاتجاهات.»
وليس من شك في أن لزيارة لافروف للصين أثرها الواضح في التخفيف من حدة التشنج الدبلوماسي الأميركي بعد زوبعة التصريحات العدوانية التي أدلى بها مسؤولون رفيعو المستوى في إدارة البيت الأبيض. وخاصة، ما صرح به الرئيس بايدن نفسه في أول لقاء صحيفي له بعد انتخابه رئيسا للولايات المتحدة الأميركية، محذرا فيه من أنه سيتعين على الرئيس الروسي فلاديمير بوتن دفع ثمن سياساته “العدوانية”. وفي أول لقاء مع نظرائه الصينيين، قدم وزير الخارجية أنطوني بلينكين لهم مجموعة كاملة من الاتهامات العلنية، تركز على انتهاك حقوق الإنسان ، وفي نفس السياق يأتي تحذير رئيس البنتاغون، لويد أوستن، أثناء زيارته للهند، دلهي من الحصول على صواريخ إس – 400 الروسية، ملوحاً بالعقوبات الاميركية، ومع أن هذه التصريحات أطلقت في ظروف مختلفة (بايدن – في محادثة مستفيضة، بلينكين – في مفاوضات رسمية، أوستن – رداً على سؤال أحد الصحفيين)، إلا أنها تكشف عن الاتجاه العام للسياسة الأميركية في زمن بايدن.
ومع أن بايدن وأقطاب إدارته يعرضون أنفسهم على أنهم مختلفون عن ترامب تماماً، ومن هنا تكرر شعار أن أميركا عادت. أي أنها غادرت لمدة أربع سنوات في اتجاه غير معلوم، ثم ها هي تعود كما كانت. على أن هذا العرض ليس دقيقاً تماماً. فليس هنالك ارتداد كلي عن سياسة ترامب كما يدعون، كما أن سياسة ترامب، بكل استعراضاته الشخصية وفوضاه، كانت امتداداً، ولو بخط متعرج، للسياسة الأميركية التي سبقته. فمنذ نهاية الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي اتجهت السياسة الأمريكية نحو إنشاء نظام عالمي تقود فيه أميركا العالم بأسره بأقل خسائر ممكنة.
في الواقع، طوال القرن الحادي والعشرين، في ظل ثلاثة رؤساء، كانت الولايات المتحدة تبحث عن مجموعة من الأدوات لتحقيق تلك السياسة، من التدخل العسكري على نطاق واسع تحت شعارات أيديولوجية في عهد بوش الى سياسة التهديد دون الاحتكاك على الأرض بقوات دول عظمى غريمة، كما كان الأمر في عهد أوباما وصولاً الى سياسة الضغط السياسي والايديولوجي التي اعتمدها ترامب. واليوم لدى بايدن وفريقه الفرصة للبناء على التجربة الغنية لأسلافهم من أجل اختيار آليات مناسبة لتحقيق نفس الأغراض السياسية.
حتى الآن، بناءً على أحداث شهر آذار الماضي، يبدو لي أن إدارة بايدن اختارت أن تضيف الى اليات تحقيقها للتوجهات الأساسية للسياسة الاميركية عنصراً أيديولوجياً وسياسياً جديداً قلما استخدمه رؤساء الولايات المتحدة الاميركية السابقين وهو خلق تحالف دولي قائم على تبني مبادئ “الديمقراطية”، أو تحالف الدول “الديمقراطية” في مواجهة الدول “الاستبدادية”.
بعبارة أخرى، تعتزم إدارة بايدن تنفيذ توليفة من أكثر الأساليب فاعلية من سابقاتها، من وجهة نظرها، متخلية بذلك عن المظاهر الأكثر دراماتيكية، كالعمليات العسكرية الضخمة أو الإفراط بالضغط على الشركاء والحلفاء باعتبارها وسائل غير عقلانية. ولكن ما مدى فعالية هذا الاختيار؟
الافتراض الرئيس الذي ينطلق منه مهندسو السياسة الأميركية هو أن الولايات المتحدة تظل دولة “لا يمكن الاستغناء عنها” للعالم بأسره، أي أن جميع الدول دون استثناء، بغض النظر عن علاقتها بالمسار الأميركي، مجبرة على التعامل مع واشنطن. ومن هنا جاءت فكرة “المشاركة الانتقائية” التي بموجبها، كما يوضح مهندسو سياسة البيت الأبيض «سنناقش ما نحتاجه مع الدول غير الصديقة، ونكبح جماحها ونمارس الضغط أينما يتطلب ذلك”.
تجدر الإشارة هنا الى أنه بالرغم من المكانة الفريدة للولايات المتحدة في النظام العالمي، والتي تمنحها مجال واسع في ترتيب خياراتها لتصنيف علاقاتها بالدول الأخرى وأسلوب التعامل معها، إلا أن إدارة الرئيس بايدن بأسلوبها الذي اتبعته أخيراً في تعاملها مع روسيا والصين تخطئ، حسب العديد من المحللين السياسيين، في تقديرها لحجم التغيرات التي حدثت وتحدث في النظام العالمي، وهي غير محقة باستخفافها بقدرة الدول الأخرى، خاصة روسيا والصين، على الرد إن فرضت عليها الدخول في مواجهة مع الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها. ولنناقش هذا الموضوع بتأنٍ.
أولاً، بالنسبة لمسألة وضع روسيا والصين في خانة واحدة كجبهة معادية، يضعف من قدرة الولايات المتحدة الأميركية على المناورة في اختيار أساليب المواجهة. فالصين قوة اقتصادية عالمية عظمى لا يستهان بها، كما أن روسيا تملك قدرات عسكرية هائلة، تتجاوز في بعض المجالات المؤثرة قدرات الولايات المتحدة الأميركية. وقد أدرك الرئيس السابق دونالد ترامب هذا الأمر بصورة واضحة، وإن لم يضعه قيد التنفيذ بسبب المعارضة الديمقراطية الشرسة له.
ثانياً، بالنسبة لجبهة حلفاء الولايات المتحدة الأميركية، فإنها تبقى قلقة وغير متماسكة بسبب الخبرة المتراكمة على مدى أكثر من ثلاثين عاماً بعد الحرب الباردة، تبدّدت فيها ثقة أصدقاء الولايات المتحدة، من خارج حلف الناتو، بالتعويل على مساعدتها في حالة حدوث أزمة خطيرة. علاوة على ذلك فإن مصالح الدول الحليفة للولايات المتحدة الاميركية قد تشعبت كثيراً بعد نهاية الحرب الباردة مما دفعها لأن تتخلى عن فكرة الانسجام مع المصالح الجيوسياسية للولايات المتحدة حتى عند التلويح بالعقوبات.
ثالثاً، كان العامل الأيديولوجي خلال الحرب الباردة أساساً في تمييز العدو عن الصديق أو غير العدو. أما بعد الحرب الباردة، فلم تعد للعامل الأيديولوجي أية أهمية في تمييز الأعداء عن الأصدقاء، وحتى «القيم» الليبرالية الغربية التي تعكزت عليها أميركا فقدت بريقها تماما في الفترة الأخيرة، على خلفية ما جرى في الولايات المتحدة الأميركية في الانتخابات الرئاسية، يضاف اليها مشاريع الثورات الملونة وموضوع التطعيم ضد فايروس الكورونا وما الى ذلك من أحداث كشفت عن وجود معايير مختلفة لتلك «القيم».
على أي حال، فان نتائج تنفيذ الآليات الجديدة للسياسة الاميركية التي اختارها الرئيس بايدن وإدارته لا توحي بأنها ستكون ثابتة، بصيغتها التي استعرضتها أعلاه، طيلة الفترة التي سيقضيها بايدن في البيت الأبيض، ما دامت روسيا تتجاهل والصين ترفض بشدة وألمانيا تناور والهند غاضبة من الضغط.

التعليقات معطلة.