قد يبدو غريباً أن يهتمّ كاتب أو إعلامي أو حقوقي أو سياسي بالأرض والطبيعة والبيئة في وقتٍ تعصف ببلاد العرب حروب وكوارث ومآسٍ وأزمات أدعى إلى القلق والاهتمام والمتابعة والمعالجة. لكن الغرابة تتبدّد عندما يقع المرء على أنماط من الوقائع والحقائق والمعلومات والإحصائيات المقلقة التي تكشف الأخطار والتهديدات والتحديات التي تواجه كوكبنا الأرضي نتيجةَ إمعان الإنسان في ظلم توأمه الأبدي: الطبيعة.
خمسة عشر ألف عالم وباحث منتمٍ إلى 184 دولة وبلداً وإلى مختلف الاختصاصات العلمية أطلقوا قبل أسبوع في مناسبة انعقاد المؤتمر العالمي الثالث والعشرين للمناخ في مدينة بون الألمانية نداء، بل تحذيراً، من أجل إنقاذ البيئة والحياة على الأرض. ذكّروا الإنسانية جمعاء بأنّ «الأرض، بكلّ الحيوات التي تنطوي عليها، تبقى منزلنا الوحيد». فهل يُعقل أن يمعن الإنسان في هدم منزله الوحيد؟
نعم، إنّه يفعل ذلك بلا هوادة رغم التحذيرات والمناشدات كلها. فمنذ «نداء ريو» في العام 1992 لمناسبة انعقاد المؤتمر العالمي الأول للمناخ في البرازيل الذي وقّعه آنذاك 1700 عالم وباحث بينهم نحو مئة حائز جائزة نوبل في اختصاصه، تضاعف معدّل الاتجاه الانحداري للخطّ البياني لمؤشراتٍ كان تناولها ذلك النداء، إذ ارتفعت حرارة الأرض مع ارتفاع
ثنائي أوكسيد الكربون CO2 ، وانحسرت رقعة الغابات، وانخفضت ولادات الحيوانات الثديية والطيور والأسماك بنسبة الثلث، وتدنّى حجم المياه الحلوة إلى النصف. ذلك كله دفع الأمم المتحدة إلى اعتبار تغيّر المناخ أحد التحدّيات الرئيسة في عصرنا، لأنّ الاحتباس الحراري يبدّل أنماط الطقس، ويهدّد الإنتاج الغذائي، ويرفع منسوب مياه البحار والمحيطات، ويضاعف خطر الفيضانات.
ما كان حال الأرض، منزلنا الوحيد، لتتدهور على هذا النحو لولا فشل الإنسانية، أيّ الإنسان أفراداً وجماعات وحكومات، في التزام المتطلّبات والشروط اللازمة لمواجهة التحدّيات البيئية المتفاقمة.
مسؤولية الفشل، في هذا المجال، تقع على عاتق الدول والحكومات بالدرجة الأولى. ذلك أنها تمتلك سلطة التحليل والتحريم والتنظيم والتوجيه والقمع، وقد قصّرت في الوفاء بموجباتها جميعاً. ولعلّ أكثر الظاهرات مدعاة للقلق والأسف أنّ الولايات المتحدة، وهي كبرى الدول الصناعية في العالم، انسحبت في شهر حزيران/ يونيو الماضي من اتفاقية باريس المناخية للعام 2015 بقرار من الرئيس دونالد ترامب.
يلي الدول والحكومات في تحمّل مسؤولية الفشل في التزام متطلبات وشروط حماية البيئة ووقف الاعتداءات المدمِّرة للطبيعة، فريقٌ من رجال الأعمال والصناعيين والتجار الذين يتوخّون الربح بأيّ ثمن ولو على حساب صحة الإنسان. وهل بقيت خافية عن الرأي العام المحلي والعالمي فضائح شركات التبغ وصناعة الأغذية والمبيدات الزراعية في دفع الرشى الرشاوى لأهل السلطة، وتزوير الدراسات والتقارير، وتعميم الإعلانات والدعايات من أجل التغطية على أخطار استعمال منتوجاتهم وتوسيع تسويقها وترويجها؟
هذه الأخطار والكوارث والتحدّيات التي تواجه الإنسانية تستوجب مواجهةً جدّية، سريعة وفاعلة، على جميع المستويات وفي أصقاع كوكبنا الأرضي كلّه. ولعلّ أول التدابير الملحّة الواجب اتخاذها في هذا المجال هو التوعية بمفاعيلها ونتائجها الكارثية وحتمية انعكاسها على جميع الدول والمجتمعات في عالمنا المعاصر. فالأرض والطبيعة والبيئة متّحدات كونية مترابطة ومتكاملة بعناصرها ومكوّناتها كافةً على مستوى كوكبنا برمّته، ولا سبيل لأيّ دولة أو إقليم أو منطقة أن تبقى بمنأى عن مفاعيلها وتأثيراتها.
ثاني التدابير المتوجب اتخاذها وتنفيذها إقامةُ وكالات أو مؤسّسات أممية عابرة للدول والمجتمعات، بمعنى أن تكون نُظمها وقوانينها وسلطاتها واجبة الاحترام والتنفيذ في كلّ مكان أو فضاء في كوكبنا وعلى نحوٍ يتجاوز دونما عوائق مفهوم سيادة الدولة المعتمّد في أحكام القانون الدولي العام.
ثالث التدابير المتوجّبة وضعُ ميثاقٍ توأم للإعلان العالمي لحقوق الإنسان جوهرُه حماية «حقوق» الأرض والطبيعة والبيئة ومتطلّبات حمايتها، وإقرار نظام عقوبات لمحاسبة ومعاقبة المخالفين والمرتكبين أمام محاكم مختصة، وطنيّة وأمميّة. ولا غلوّ في أن تكون عقوبة الجرائم المدمِّرة للطبيعة والبيئة مساوية في شدّتها لعقوبة جرائم الحرب الوحشية والإبادة العنصرية والجماعية.
أخيراً وليس آخراً، الدولُ المنتجة للنفط والغاز مدعوةٌ قبل غيرها وأكثر من غيرها إلى التحوّط لنتائج الاعتداءات المدمِّرة للطبيعة والبيئة وردود الفعل المتعاظمة عليها، ولا سيما لجهة سنّ القوانين وإقرار الأنظمة والآليات الهادفة الى خفض الاحتباس الحراري وأهمّها الحدّ من استهلاك الوقود الأحفوري النفط والغاز وتعزيز الاعتماد على الطاقات الخضراء والتكنولوجيا الخضراء.
لتفادي خسارة عائدات النفط والغاز كلها أو جلّها، وهي عماد الدخل الوطني في الدول المنتجة لهما نتيجة تقليص وربما تحريم استعمال الوقود الأحفوري، يقتضي إطلاق مبادرة جدية بلا إبطاء للتثمير والاستثمار والتوظيف في صناعات توليد الطاقة من المصادر الخضراء المتجدّدة كأشعة الشمس، والرياح، ومساقط المياه المتدفقة، وبعض النباتات والمزروعات.