“بعد أن تبني حياتك في بلد جديد، يصبح موضوع العودة إلى بلدك الذي نشأت فيه أمراً شاقاً، لأن الكثير من الأمور قد تغيرت جذرياً”، قال الشاب الأرمني السوري جورج، وهو يشير إلى ما حدث له وللعديد من الشبان الأرمن الذين غادروا بلدهم سورية بسبب سوء الأوضاع الأمنية والاقتصادية منذ 2011.
ولم يكن أرمن سورية يتوقعون أنهم سيواجهون ذات المصير الذي واجه أقرانهم في العراق. حيث تتمتع هذه الأقلية المسيحية في البلدين بحرية في إنشاء مدارس تعلم فيها لغتها ومواد ثقافية تختارها وببناء الكنائس إلى جانب ممارسة مهن مختلفة أوصلت بعضهم إلى الثراء، حتى أجبرتهم الظروف على السفر.
لماذا غادرت الأغلبية؟
“باتت الأحوال تسوء منذ الحرب الأهلية العراقية الأولى في 2006، حيث بدأت موجة الاعتقالات وعمليات الخطف من قبل ميليشيات مسلحة طالت المسيحيين بشكل عام، مع أنه كانت هناك محاولات لتفادي إيذاء الأرمن لأننا لم نحابي طرفاً على حساب آخر، فاضطرت الأغلبية إلى اللجوء في هولندا أو الولايات المتحدة”، قال الشاب العراقي الأرمني سيبان دهجت لموقع (إرفع صوتك)، وهو موظف في مكتبة الكونغرس في واشنطن.
وساءت الظروف أكثر مع ظهور داعش حيث انخفض العدد الحالي لأرمن العراق إلى 13 ألفاً بعد أن كان عددهم حوالي 25 ألف شخص قبل 2003 حسب موقع السفارة الأرمنية في العراق. وفي سياق مشابه يعيش حالياً في سورية ما لا يزيد عن 30 ألف شخص بعد أن كان عددهم يبلغ مئة ألف مواطن قبل 2011 حسب صحيفة “ذا إكونوميست” البريطانية.
ولماذا بقي البعض؟
“أعتقد أن سبب بقاء البعض هو اقتصادي أو أن طلبات الهجرة الذي قدموها لم تقبل بعد” قال سيبان موضحاً سبب بقاء بعض أصدقائه الأرمن في العراق.
بينما يوضح جورج وهو يتابع دراسته العليا في مجال العلوم الإنسانية في الولايات المتحدة أنه وإلى جانب التحدي الاقتصادي كان بعض أرمن سورية من أصحاب ثروات طائلة، قد بقوا خشية سرقتها من قبل داعش أو غيرهم من اللصوص أو حتى المسلحين، وكان آخرون مؤمنين أن هذه حالة طارئة وأن “من يخرج من داره يقل مقداره”.
ويؤكد الشابان أن عودة المهاجرين أمر صعب جداً، لأن انحسار خطر داعش لا يعني نهاية المشاكل الاقتصادية والأمنية. أما السبب الأبرز هو أن كل من سعى للمغادرة وضع نصب عينيه أهدافاً يعمل على تحقيقها، “فليس من السهل أن تترك ما بنيته وتعود لأن الكثير من ظروف الحياة والعمل قد تغيرت وبشكل جذري”، حسب جورج.
تغيير مجتمعي كبير: مكاسب ومخاطر
إن التدهور الأمني في العراق وسورية وجه ضربة قاصمة لتنوع الأقليات في البلدين. ويقول الباحث في شؤون الأقليات د. سعد سلوم لموقع (إرفع صوتك) إن القضية أصبحت تتجاوز قضية العنف لأن المناطق المحررة من داعش في العراق مثلاً أصبحت مناطق تتنازع عليها الفئات المختلفة.
ويوضح الباحث العراقي أن البلدين خسرا بسبب الظروف المعيشية السيئة مكوناً مهماً من النسيج المجتمعي، لأن الأرمن والذين هاجروا إلى الشرق الأوسط، لا سيما سورية والعراق ولبنان بعد مجازر 1915 على يد السلطات العثمانية، كانوا من أكثر الأقليات اندماجاً مع المجتمعات التي انتقلوا إليها، وحققوا نجاحات كثيرة على الصعيد الاقتصادي. كما أنهم لم يكن لهم مطالب سياسية ولم يشكلوا أحزاباً محلية كغيرهم من الطوائف كالآشوريين والسريان مثلاً سوى مطالبة البرلمانات الاعتراف بالإبادة الجماعية التي قامت بها الدولة العثمانية.
ويقول د.سلوم “هذا الحال لا يمكن أن يبقى على ما هو عليه، حيث برزت الحاجة من قبل الحكومات إلى التفكير بحلول تساعد الأقليات على البقاء. ومن أكثر السيناريوهات المطروحة إقامة محافظات للأقليات كنوع من توزيع السلطة. لا يعني ذلك تفكيك البلاد وإنما إقامة مساحات تشعر فيها هذه الفئات بالأمان وتحصل على نوع من الخصوصية التعليمية والإدارية واللغوية بحيث تكون نموذجاً جديداً لإدارة التنوع المجتمعي”.