الأزمة السورية ترسم نظاماً عالمياً جديداً

1

حسن نافعة
كان الصراع الدائر في سورية وعليها منذ ما يقرب من سبع سنوات، قد أخذ في البداية شكل أزمة داخلية أفرزتها ثورة شعب في مواجهة نظامه المستبد. غير أن التفاعلات المتشابكة لتلك الأزمة ما لبثت أن حولته إلى صراع دولي واسع النطاق، وجاذب للقوى المتنافسة على قيادة المنطقة والهيمنة على النظام العالمي، حرصت القوى المنخرطة فيه على إخفاء أهدافها الحقيقية وراء شعارات برّاقة اختلطت فيها الأوراق، وسقطت الحواجز والحدود، واستحال فيها التمييز بين الطيب والخبيث، الأمر الذي أدى إلى تحول سورية تدريجياً إلى ساحة لتصفية الحسابات المتعلقة بأنواع الصراعات القديمة والمستجدة كافة، على خلفية مِن ثورات «الربيع العربي».
 
فحين انفجرت الأزمة السورية في آذار (مارس) 2011، نُظر إليها باعتبارها أحد تجليات هذا «الربيع»، وتصورت القوى الإقليمية والدولية الراغبة في تصفية حسابات قديمة مع نظام بشار الأسد، انطلاقاً من هذه الرؤية، أن أيامه باتت معدودة وأنه سيسقط حتماً بالسهولة نفسها التي سقطت بها نظم بن علي ومبارك وصالح والقذافي من قبل. غير أن هذه النظرة المتعجلة بدت وكأنها تغفل حقيقة مهمة ميّزت النظام السوري عن غيره من أنظمة الاستبداد التي اندلعت ثورات «الربيع العربي» في مواجهتها، وذلك من زاويتين رئيستين على الأقل. الأولى: أن هذا النظام كان الوحيد من بين النظم الحاكمة في «دول الطوق» الذي لم يرتبط بمعاهدة «سلام» مع إسرائيل، حيث بدا مختلفاً عن «نظام كامب ديفيد» المصري، وعن «نظام أوسلو» الفلسطيني، وعن «نظام وادي عربة» الأردني، الأمر الذي زيّن له تسويق نفسه باعتباره النظام العربي الوحيد «الصامد» في وجه الأطماع الإسرائيلية والداعم للمقاومة المسلحة للاحتلال الإسرائيلي على الجبهتين الفلسطينية واللبنانية!
 
الثانية: أنه النظام العربي الوحيد الذي قرر تأييد الثورة الإيرانية فور اندلاعها عام 1979، ورفض تأييد الحرب التي شنّها صدام حسين على إيران في العام التالي لاندلاع هذه الثورة. ورغم مشاركة النظام السوري لاحقاً في «حرب تحرير الكويت»، تحت قيادة أميركية، إلا أن علاقته بإيران، والتي بدت حينها مدفوعة بمتطلبات ترتيب أوراق الصراع مع إسرائيل، ظلت صامدة بل وراحت تزداد صلابة بمرور الوقت. كان من الطبيعي، في سياق كهذا، أن يتشكل في مواجهة تكتل القوى الدولية والإقليمية الساعية لإسقاط نظام بشار، تكتل مضاد شكلت إيران وحزب الله نواته الصلبة. اليوم، وبعد مرور سبع سنوات على اندلاع الأزمة السورية، يبرز التحالف القائم بين النظام السوري، من ناحية، وإيران وحزب الله، من ناحية أخرى، باعتباره الأقدر على امتلاك مقومات التماسك والصمود، مقارنة بالتحالفات الأخرى التي ظهرت في المنطقة، منذ اندلاع الأزمة السورية وحتى الآن، والتي اتسمت بقدر كبير من السيولة واعترتها مظاهر التفكك.
 
لا شك أن للصراع الدائر فوق الساحة السورية منذ سبع سنوات أبعاداً محلية لا يمكن إنكارها، غير أن التدخل الكثيف للقوى الخارجية أدى إلى تراجع المشكلات الداخلية لتصبح مجرد أداة توظّف كوقود لتغذية صراعات إقليمية وعالمية أصبحت الساحة السورية مرآة عاكسة لها. وبوسع أي مراقب لما يجري فوق هذه الساحة أن يلحظ أن تركيا وإيران وإسرائيل، وهي قوى إقليمية كبرى لدى كل منها مشروع خاص للهيمنة على المنطقة، منغمسة بعمق في هذا الصراع. ولأن أياً من هذه القوى لا يستطيع منفرداً حسم هذا الصراع لمصلحته، خصوصاً أن شبح الحرب الباردة بين الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية عاد ليطل برأسه من جديد. لذا يمكن القول إن الصراع المحتدم على الساحة السورية يدور في الواقع، في شكل مباشر أو غير مباشر، بين تركيا وإيران وإسرائيل، وتتحكم في إدارته، في شكل مباشر أو غير مباشر أيضاً، كل من الولايات المتحدة وروسيا.
 
أتاح اندلاع ثورات «الربيع العربي»، بخاصة بعد تصدر تيار الإسلام السياسي المشهد، أمام أردوغان فرصة لبعث الطموحات العثمانية، ومن هنا إصراره العنيد في البداية على رحيل بشار، واستعداده لدعم القوى المناهضة له في الداخل والخارج، أياً كانت درجة تطرفها، ولفتح حدود بلاده أمام تدفق «المجاهدين» من كل حدب وصوب للاشتراك في القتال الدائر على الساحة السورية. غير أن مشروع أردوغان «العثماني» ما لبث أن تلقى ضربات عدة، أولها جاء من مصر عقب إطاحة حكم جماعة «الإخوان» عام 2013، وثانيها جاء من روسيا بعد أن قررت التدخل عسكرياً لدعم نظام بشار، وثالثها جاء من الولايات المتحدة التي راحت تعتمد على الأكراد في شكل مباشر للحصول على موطئ قدم فوق الأرض السورية، ورغم أنف النظام الحاكم. غير أن الضربة الأخطر جاءت أردوغان من الداخل التركي نفسه حين وقع انقلاب عسكري كاد أن يطيح به، ما أجبره على إعادة صياغة سياسته في سورية واختزال طموحاته في منع قيام دولة كردية على حدوده. وبعد أن كادت طموحاته تدفع به نحو صدام عسكري، خصوصاً بعد إقدام سلاح الجو التركي على إسقاط مقاتلة روسية، إذا به يصبح الآن شريكاً في البحث عن تسوية سياسية للأزمة، مع كل من روسيا وإيران.
 
كانت الأزمة السورية، التي راحت تتفاقم إلى الدرجة التي بدت تهدد نظام بشار بالسقوط، وضعت إيران في مأزق خطير، ذلك أن سقوط أهم حليف لها في المنطقة شكّل تهديداً خطيراً؛ ليس فقط لمشروعها التوسعي في المنطقة، وإنما عرّض أمنَها الوطني ذاته للانكشاف في الوقت نفسه، خصوصاً وأن سقوطه كان سيؤدي بالضرورة إلى ممارسة ضغوط كثيفة على «حزب الله» لتسليم سلاحه والتحول إلى حزب سياسي، وهو ما يفسر ليس فقط استماتة إيران في الدفاع عن النظام السوري، إنما أيضاً مسارعة «حزب الله» للمشاركة بالقتال إلى جانبه وفي توقيت بالغ الحساسية.
 
أما إسرائيل، فقد راحت تراقب بسعادة بالغة ما يجري على الساحة السورية، خصوصاً بعد أن أصبح الجيش السوري خارج معادلة الصراع العسكري معها، وسعت لسكب المزيد من الزيت على الأزمة المشتعلة والعمل على إطالة أمدها، أملاً في أن تفضي إلى تقسيم الدولة السورية واستنزاف إيران وحزب الله سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، بل ولم وتتورع عن التدخل عسكرياً في سورية من وقت إلى آخر لتوجيه ضربات انتقائية. غير أن صمود النظام السوري، بالتزامن مع تزايد نفوذ إيران وقوات «حزب الله» على الأراضي السورية، جعلها تشعر بالقلق. صحيح أن تدخل روسيا عسكرياً بدا لها كعنصر تطمين أكثر منه عنصر تهديد، غير أن تطور الأوضاع العسكرية على الأرض، خصوصاً بعد تمكن الدفاعات السورية أخيراً من إسقاط مقاتلة إسرائيلية من طراز أف16، جاء ليذكر الأطراف كافة بأن خيوط الأزمة ليست جميعها تحت السيطرة.
 
بقي أن نتذكر أن التدخل الروسي في الأزمة لم يبدأ إلا في الثلث الأخير من الولاية الثانية لأوباما، وأن روسيا راهنت على ترامب أملاً في أن يؤدي وصوله إلى البيت الأبيض إلى اتفاق على آليات تضمن تنسيق المواقف والسياسات بين البلدين، ليس فقط بهدف التوصل إلى تسوية سياسية للأزمة في سورية تأخذ في اعتبارها مصالح الأطراف كافة، وإنما أيضاً لضبط تفاعلات النظام العالمي من خلال قيادة ثنائية أو جماعية. لكن يبدو أن بعض الأوساط المتطرفة في كل من إسرائيل والولايات المتحدة تعتقد أن الأزمة السورية لا تزال قابلة للاستخدام كأداة لاستنزاف ليس فقط إيران و «حزب الله» وإنما روسيا أيضاً. ولأنني على قناعة تامة بأن سورية لن تهدأ إلا إذا تمكّنت من تفكيك التحالف بين إيران وسورية و «حزب الله»، تبدو لي الأزمة السورية بمثابة معمل التفريخ لنظام عالمي جديد أظن أنه يشهد الآن ولادة متعثرة.

التعليقات معطلة.