الأكراد وخذلان الحلفاء.. أن تُلدغ من نفس الجحر 100 مرة

1

 

إبراهيم بديوي

أكد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مساء أول أمس، الأربعاء، أن الوقت حان لعودة الجنود الأمريكيين إلى بلادهم بعد سنوات من قتالهم ضد تنظيم الدولة الإسلامية. وفي رسالة بالفيديو بثها عبر حسابه بموقع تويتر، قال ترامب: «بعد الانتصارات التاريخية ضد داعش، حان الوقت لإعادة شبابنا العظماء إلى الوطن».

نزلت هذه الرسالة على مسامع أكراد سوريا، وجناحهم العسكري قوات سوريا الديمقراطية، المعروف اختصارًا بـ«قسد» كالصاعقة، ذلك أن الولايات المتحدة شكلت لهم الحليف الأقرب والأضمن لئلا يتعرضوا للهجوم المحتمل من الدولة التركية، تركيا التي تعتبرهم امتدادًا لحزب العمال الكردستاني في الجنوب، والحقيقة أن التخاذل الأمريكي تجاه الأكراد لم يكن أول التخاذل الدولي تجاههم.

وهذه أول الحكاية:

في غرفة صغيرة بإحدى ضواحي العاصمة الفرنسية باريس، جلس ممثلون عن دول المحور للتوقيع على واحدة من سلسلة معاهدات جرى الاتفاق عليها بعد الهزيمة الثقيلة التي لحقتهم في الحرب العالمية الأولى، كان ذلك في العاشر من أغسطس (آب) 1920، وكانت المعاهدة بمثابة الاتفاق على إنهاء وجود الدولة العثمانية، وتقطيع أوصالها بين الحلفاء، حتى أن أنظمة جديدة في الحكم ظهرت على أطرافها، كالانتداب البريطاني على فلسطين والعراق، والفرنسي على لبنان وسوريا.

لكن المعاهدة كانت لآخرين بمثابة الأمل في أن تصبح لهم دولة، وكانوا من قبل أقليةً ضمن الدولة العثمانية الواسعة، الأرمن والأكراد، عرقان عاشا في ظل الدولة العثمانية لكنهما أبدًا لم يُخلصا لها، حتى لاحت لهم فرصة الاستقلال وتشكيل دولتهم المستقلة، وكان الدعم الغربي متركزًا أكثر على قضية الأرمن، ربما لانتمائهم الديني.

وهو ما فطن إليه شريف باشا (ممثل الأكراد) بعدما رأى تعاطف الدول الأوروبية أكثر مع القضية الأرمنية، فبادر إلى عقد اتفاقية مع ممثل الأرمن بوغوص نوبار بحضور الرئيس المؤقت لوفد جمهورية أرمينيا، ووقع الجانبان -باسم الشعبين- الاتفاقية، مؤكدين ضرورة أن تكون للكرد والأرمن مصالح وأهداف مشتركة، هي الاستقلال، والتخلص من السيطرة العثمانية، كان شريف باشا يطمع في أن تكون القضية واحدة فتحظى بذات الاهتمام الأوروبي.

صورة من اجتماعات معاهدة سيفر أغسطس 1920

أقام الأرمن دولتهم وبقيت دولة الأكراد حبرًا على ورق، وذلك أن القوميين الأتراك بزعامة مصطفى كمال أتاتورك اعتبروا المعاهدة بمثابة حكم بالإعدام على بلدهم، ومع تحقيقهم النجاحات العسكرية المتتالية في حرب الاستقلال التركية، ومع خشية الدول الغربية من تزايد النفوذ الروسي غربًا مستغلًا الصراع الأوروبي- الكمالي، أصدر الحلفاء قرارًا بإعادة النظر في المعاهدة، ووُجهت الدعوة لحكومة أنقرة الجديدة لحضور مؤتمر لندن 1921 ولوزان 1923، لتذهب الدولة الكردية حتى من الورق!

كيف بدأت المسألة الكردية؟
لطالما كانت المسألة الكردية أكثر تعلقًا بالصراعات، ذلك أن نشأتها أصلًا كانت نتاج صراعات الدولتين العثمانية والصفوية 1514. وكانت كردستان قبل ذلك التاريخ تسود فيها إمارات مستقلة منكفئة على تنظيم شؤونها الداخلية، لكن سوء معاملة الشاه إسماعيل الصفوي، إضافة إلى الاختلاف المذهبي دفع هذه الإمارات إلى الارتماء في أحضان الدولة العثمانية.

كان ذلك في عهد السلطان سليم الأول، وبتفويضٍ منه، أبرم الملا إدريس البدليسي اتفاقية مع أمراء الكرد، يعترف لهم بالإمارة ولأبنائهم من بعدهم (نظام الحكم الوراثي)، في مقابل أن تدفع هذه الإمارات رسومًا سنوية دليل تبعيتها للدولة العثمانية، وتشارك الجيوش الكردية في أية معارك تخوضها الإمبراطورية، ويُذكر اسم السلطان العثماني، ويُدعى له على المنابر.

السلطان العثماني سليمان القانوني الموقع على معاهدة أماسيا

كان هذا الاتفاق تاريخيًّا، بحيث يقر بالمشكلة الكردية، فالإمبراطورية العثمانية ها قد اعترفت بحقوق الأكراد واستقلالهم الفعلي عنها، وحقهم في إدارة شؤونهم الداخلية بعيدًا عن الأستانة، لكن كون المسألة الكردية نتاج صراع بين إمبراطوريتين، فإن بقاءها قيد المداولة مرهون كذلك بحل النزاعات، ورفع الخلاف بين الإمبراطورية العثمانية والدولة الصفوية، وهو ما حدث فعلًا عام 1555، بعد أكثر من 120 عامًا من الحرب، حين توصل الطرفان لأول معاهدة رسمية بينهما، والمعروفة تاريخيًا بـ«أماسيا».

كرست «أماسيا» الانقسام الكردي بتعيينها حدود البلدين، واقتضت هذه الحدود أن تقتطع الدولة الصفوية جزءًا من أراضي الأكراد «كردستان إيران»، بينما تتنازل للعثمانيين عن جزء من أرمينيا وأذربيجان.

توالت المعاهدات بين الدولتين، الصفوية والعثمانية، جميعها كرست هذا الانقسام بحق الأكراد، وبذلك تعقدت المشكلة الكردية يومًا بعد آخر، لكن ما زاد الوضع تعقيدًا أن الإرساليات التبشيرية الغربية بدأت تحتك بالأكراد عن طريق الرحالة، تُوغر في صدورهم وتزكي النار الموجودة أصلًا تجاه الدولتين العثمانية والصفوية، فكان الأكراد دائمي التحرش بكلتيهما، وتذكر مراجع التاريخ أن أيًّا من الدولتين لم تكن لديها القدرة على بسط النفوذ الكامل على أراضي الأكراد، لجسارتهم في القتال، وطبيعة الجغرافيا الوعرة في الأماكن التي عاشوا فيها.

الفرصة الأولى والوحيدة
حاول الأكراد في ما بعد الحرب العالمية الأولى تشكيل دولتهم على أنقاض الدولة العثمانية المتداعية، وهو ما أُشير له أعلاه، في الحديث عن معاهدة سيفر، لكن نهضة القوميين الأتراك والحركة الكمالية أعادت بعض الهيبة للأتراك، وكان الأكراد أول الضحايا، ومرةً أخرى يحاول الكرد اللعب على وتر الصراع، لكن هذه المرة كان الصراع عالميًّا بين دول المحور والحلفاء، وبينما كانت الحرب العالمية الأولى تضع أوزارها، كان الأكراد يتحركون ويبذلون جهدًا مضنيًا ليصل صوتهم إلى المجتمعين في مؤتمر الصلح بباريس عام 1919.

حاول الأكراد الاستفادة من البنود التي أعلنها رئيس الولايات المتحدة الأمريكية وودرو ويلسون حول حق الشعوب في تقرير مصيرها، وذلك في سبيل سعيه لإنهاء الحرب العالمية الأولى، ولما لم يكن لهم كيان سياسي يمثلهم ويحضر الاجتماعات التحضيرية معبرًا عنهم، فوّضت العشائر الكردية شريف باشا لتمثيلهم والمطالبة بحقهم في أن تكون لهم دولتهم المستقلة. وشريف باشا هذا كان كرديًّا في ظل الدولة العثمانية، عهد إليه سلاطينها بوظائف مرموقة، بدأت بكونه مستشارًا في البلاط، ومن بعد سفيرًا للدولة العثمانية لدى السويد، لكنه التحق من هناك بالأعمال المعادية للدولة العثمانية، ولما وصلت أخباره إلى السلطان عبد الحميد الثاني عزله على الفور.

الرئيس الأمريكي إبان الحرب العالمية الأولى وودرو ويلسون

قدم شريف باشا مذكرتين للقائمين على شؤون مؤتمر باريس، طالب فيهما بالعمل على إنشاء دولة مستقلة للأكراد، غير مجزأة، وأن يتدخل الحلفاء لحماية الأكراد من بطش حكومة الاتحاد والترقي، متهمًا الأتراك بالنفاق في ما يخص القضية الكردية، يعلنون ودهم وعنايتهم ويبطنون بطشهم وحقدهم، لكن انتهى الحال بالجلوس على طاولة المفاوضات في مؤتمر لندن 1921، ومن بعده لوزان 1923، ليتبخر حلم الدولة الكردية بعدما كان وشيكًا في سيفر 1920.

الأكراد ورقة في يد الأعداء
مع بدايات العهد الملكي في العراق (1921) اتهمت السلطات العراقية بريطانيا بتحريض الأكراد وتشجيعهم على عدم الاندماج في النسيج الوطني العراقي، لم يكن ذلك التحريض حبًّا في الأكراد، أو إيمانًا من الإنجليز بحقهم في الدولة المستقلة، وهم الذين لتوهم خذلوهم في مؤتمر لندن (1921)، لكن بريطانيا كانت من وراء هذا التأليب تبغي إجبار الحكومة العراقية على توقيع معاهدة طويلة الأجل معها، في الوقت الذي كانت فيه بريطانيا تعاني آثار الحرب وكان العراقيون يسعون إلى الاستقلال عنها.

ولما كانت الدولة التركية تطالب بأحقيتها في محافظة الموصل العراقية، كونها ضمن الإقليم الكردي، كان الامتناع عن التوقيع من قبل العراقيين سيعني، ليس فقط خسارتهم للأكراد، بل للإقليم الغني بالنفط كذلك. وبالفعل رضخ العراقيون ووقعوا المعاهدة مع بريطانيا 1922، وضمنت لهم الأخيرة إقليم الموصل، ومعه عددًا كبيرًا من الأكراد. وهكذا بعدما كان كردستان مقسمًا بين الدولتين العثمانية والصفوية، كان ضحية التقسيم مرةً أخرى بين الدولة التركية والمملكة العراقية، وكان ذلك بدعم بريطاني أصيل.

حاولت الدولة العراقية احتواء الأكراد، ونص دستورها على أن العرب والأكراد شركاء في الأرض، كانت تهدف من وراء ذلك إلى احتواء الأكراد ضمن كيان الدولة العراقية الواحدة، وحكومتها المركزية، لكن ذلك لم يمنع الأكراد من مواصلة السعي نحو حكم ذاتي، ما دفعهم للتمرد المسلح عام1961. وبدلًا من أن تقابل حكومة الجمهورية العراقية هذا التمرد بمزيد من التعقل والهدوء، اندفعت لرده بقوة السلاح، ما ساعد على تفاقم الشقاق واستدعاء مزيد من العداء.

قويت شوكة الأكراد، واشتد عضد الحركة المسلحة شيئًا فشيئًا، لاسيما في ظل ظروف العراق الداخلية وتقلبها في عدد من الانقلابات العسكرية المتلاحقة، إضافةً إلى الدعم الدولي الذي لقيه أكراد العراق، فتركيا وإيران على سبيل المثال وجدتا في النظام الجمهوري الأول للعراق نظامًا شيوعيًا يهدد مصالح الإقليم، وإسرائيل كذلك مدت يدها للأكراد لإضعاف الجيش العربي العراقي؛ وبالتالي خروجه من الحسابات في أي مواجهة إسرائيلية قادمة مع الجيوش العربية، وهو الدعم الذي توج لاحقًا بالاصطفاف الدولي، وإعلان الدول المتحالفة لرد العدوان العراقي على الكويت عام 1990 المنطقة الكردية محمية من قبلهم.

مسعود البرزاني، الرئيس السابق لحكومة كردستان العراق

الحلقة المفقودة في هذا السرد، أن الحكومة البعثية في العراق ثبتت سنة 1970 حق الأكراد في الحكم الذاتي، وحددت فترة أربع سنوات لاستصدار التشريعات اللازمة للوضع الجديد، وبالفعل تكلل الاستقلال سنة 1974، إلا أن الملا مصطفى البرزاني رفض قانون الحكم الذاتي، ولجأ إلى السلاح مرةً أخرى، معتمدًا على المساعدات الإيرانية المباشرة.

لكن كالعادة مع اتفاق الجزائر بين العراق وإيران 1975، توقف الدعم الإيراني تمامًا، وسلّم رجال البرزاني أنفسهم للحكومة المركزية العراقية، على أن يعاودوا كفاحهم المسلح مع حرب الثمانية أعوام، لتتأكد الحتمية اللازمة للمسألة الكردية كونها أزمة وُلدت في أتون الصراعات الإقليمية ولا تخضع إلا لتوازنات هذه الصراعات، بعيدًا عن مصالح الأكراد أنفسهم، ورغباتهم ومطالبهم في العيش الكريم.

الغزو الأمريكي والفرصة الكردية
يوليو (تموز) 2002، كان عدد من أفراد الاستخبارات المركزية الأمريكية في الشمال العراقي مع وحدات البيشمركة بدعوى التعاون في الحرب على جماعة أنصار الإسلام (جماعة كردية سلفية كانت تعدها الولايات المتحدة متطرفة، وكانت على خلافات مسلحة مع الاتحاد الوطني الكردستاني) لكن حقيقة التعاون تكشفت في ما بعد.

استعانت الاستخبارات الأمريكية بالبيشمركة ليقدموا المعلومات عن الجيش العراقي قبل الحرب، ولحظة الحرب قدمت قوات البيشمركة خدماتها بتحطيم السكك الحديدية والمباني الرئيسية قبيل القصف والإنزال الأمريكيين، كذلك تضاعفت الأهمية الاستراتيجية لمساعدة الأكراد بعدما رفض الأتراك استخدام أراضيهم ومطاراتهم العسكرية في الحملة على العراق، وتولى أفراد من الجيش الأمريكي مسؤولية إعادة هيكلة القوات العسكرية الكردية (البيشمركة) لإشراكهم في الحرب على نظام صدام حسين، وجعلهم في مستقبل العراق ما بعد العدوان.

عدد من قوات البيشمركة

جنى الأكراد مقابل خدماتهم أن حل تحالفهم الانتخابي في المرتبة الثانية في الانتخابات الوطنية التي شهدها العراق في 2005، واختير الزعيم الكردي جلال الطالباني رئيسًا مؤقتًا للبلاد. كان هذا الإنجاز كافيًا لأن يندمج الأكراد في نسيج الدولة العراقية الجديدة بعد الغزو، لكن لعدة أسباب، منها ما هو خارجي، ومنها ما هو داخلي، عاد الأكراد من حيث بدأوا إلا من بعض الامتيازات النفطية.

استعادت قوات الأكراد بعض المدن من القوات الأمريكية لإدارتها وضبط الأمن فيها، لكن الشبكات الحقوقية نقلت عن مأساة إنسانية تحدث في السجون التي يديرها الأكراد، خلافًا للتحرش الكردي بإيران وتركيا، ما استفز كليهما لإغلاق الحدود والتورط في عمليات عسكرية معادية للإقليم الكردي، وبدأت الخلافات في 2011 بين إدارة الإقليم والإدارة العراقية المركزية حول امتيازات الحقوق النفطية، كل هذه العوامل تزامنت مع خلافات داخلية بين الفصائل السياسية الكردية، وأغلبها يمتلك فرقًا عسكرية.

العام الماضي دعا مسعود البرزاني زعيم الإقليم إلى استفتاء على الانفصال، في ظل الانشغال العالمي والإقليمي بقضايا شائكة وحروب على الإرهاب والتطرف، لكن معارضيه من داخل الإقليم ادعوا أنه لا يريد من وراء هذا الاستفتاء إلا تثبيت سلطته على الإقليم، واسترداد جزء من شرعيته المتداعية أمام الأزمات الكثيرة، أزمات اقتصادية في ظل امتيازات نفطية كبيرة، وانقسام سياسي داخلي، وغير ذلك لم يقدم حلفاؤه الأمريكيون سوى عبارات القلق والريبة إزاء التحرك الانفصالي، في ما عد خذلانًا أمريكيًّا جديدًا للقضية الكردية، وعدم احترام للخدمات التي قدمها الأكراد للولايات المتحدة.

أكراد تركيا بين التتريك والوعود
لم ينكر مصطفى كمال أتاتورك حاجته للأكراد في حرب الاستقلال التركية، ما دفعه لإعطائهم الوعود بالاستقلال والاعتراف بحقوقهم في تقرير مصيرهم، لكن ذلك لم يصمد، فبعدما أُعلنت الجمهورية التركية الحديثة عام 1923، وكان أتاتورك أول رئيسٍ لها، لم يتورع أبدًا عن تتريك القوميات الموجودة في بلاده، إيمانًا منه بضرورة السلوك القومي والوحدة التركية.

مصطفى كمال أتاتورك، أول رئيس للجمهورية التركية الحديثة

وقد ساعدته في ذلك بريطانيا، وهو الدور الذي ما كان مفهومًا إلا في سياق دعم الإنجليز لأتاتورك للقيام بدولته الحديثة، والإجهاز على ما تبقى من الدولة العثمانية، ولم تشكل المسألة الكردية أي عائق أمام الإنجليز ليدعموها أو يحاولوا مساعدتها كلما انقضت مصالحهم معهم (أي مع الأكراد). وفي هذا يرى المستشرق السوفيتي م. س. لازاريف في كتابه «الإمبريالية والمسألة الكردية»أن الدور البريطاني ضد الكرد بدأ يظهر بوضوح بعد الحرب العالمية الأولى؛ إذ سعى الإنجليز لاحتواء ثورات الأكراد بتقسيم كردستان بين تركيا، والعراق، وإيران، وسوريا، إذ عقدوا اتفاقيات بين هذه الدول، باستثناء سوريا التي لم تكن خاضعة للنفوذ البريطاني، لحفظ أمن الحدود، ولحصار الأكراد ومنعهم من توحيد كردستان.

توالت الحكومات بعد أتاتورك ومضت جميعها على النهج ذاته، تتريك الأكراد وإزالة الفروقات القومية التي تميزهم عن عموم الشعب التركي، وتجدر الإشارة إلى أن أكراد تركيا يمثلون تقريبًا 20% من إجمالي سكان تركيا، أي ما يقارب حوالي 15 مليونًا، وهو الوجود الأكبر للأكراد في البلدان التي يوجدون فيها، وذلك مفهوم للاعتبارات التاريخية سالفة البيان.

بدأت العلاقة بين حكومة أنقرة والأكراد تأخذ منحنى أكثر عنفًا بنشاط الحركات اليسارية في أوساط الشباب الكردي؛ إذ ظهر حزب العمال الكردستاني المعروف اختصارًا بـ«بي كا كا» وتزعمه الانتفاضات والمقاومة ضد السلطة المركزية عام 1978. وبعد انتكاسة ثورة سعيد بيران شنت الحكومة التركية حملة اعتقالات وتصفيات واسعة في المناطق الكردية، وبقي الحال على هكذا حتى مجيء الرئيس التركي توركوت أوزال وتبنيه لغة هادئة مع الأكراد، ثم هدأت الأمور أكثر بعدما وصل رجب طيب أردوغان وحزبه إلى السلطة عام 2002، حيث اللغة السياسية مع الأكراد، وتقديم الاعتذارات لهم عما ارتكب بحقهم من جرائم وإبادات جماعية، كانت أبشعها مجزرة ديرسيم.

وانطلقت أوائل العقد الحالي عملية السلام بين الحكومة التركية والأكراد، وجرى الاتفاق على نزع سلاح الأكراد في مقابل مكاسب سياسية أكبر، وتخطى الحزب الممثل للأكراد «حزب الشعوب الديمقراطي» في انتخابات عام 2015 عتبة 10%.

الرئيس التركي الحالي رجب طيب أردوغان

لكن في ما بعد دخلت عملية السلام مرحلةً من الجمود على إثر استئناف الحزب (حزب العمال الكردستاني) العمليات المسلحة في 2015، ويُرجع محللون الأسباب التي أودت بعملية السلام إلى هذا المفترق الصعب إضافة للعوامل الداخلية لدى كلا الطرفين، وعدم الثقة المتبادل أن ثمة أطراف دولية تدعم الحزب الكردي، لاسيما في ظل الأوضاع غير المستقرة في الجنوب السوري، وهي المعضلة الدائمة التي تُفشل أي تسوية سياسية للأكراد في أي من البلدان التي يسكنوها.

ويبقى هكذا مصير الأكراد معلقًا بين دول غربية لا تريد حلًّا لقضيتهم، يستخدمونها متى يشاؤون للضغط على الدول الحاضنة للأكراد، وبين الفشل السياسي الداخلي الكردي في إدارة ملفاتهم وأولوياتهم، سواء في الدمج أو الانفصال.

التعليقات معطلة.