رغم إدراجها ضمن لائحة “يونسكو” ما زالت مهددة
صباح ناهي باحث وكاتب عراقي الثلاثاء 15 يونيو 2021 5:43
سكان الأهوار يعيشون على الزراعة وصيد الأسماك وتربية الحيوانات (غيتي)
هناك حيث تبزغ الشمس عجلى على أرض سومر، وتستيقظ أور وأريدو ولجش وبقية المدن الآفلة إلا من دوارس ونتوءات تستدل على بقايا حضارات تتوارى تحت التراب، فإن تاريخا ًحافلا تختزنه بيئة الأهوار العراقية جنوب السهل الرسوبي، كبقايا لجنة عدن كما يتصورها المؤرخون حين أطلق عليها العرب الأوائل “البطائح” التي تتجمع فيها المياه.
هناك كانت أول مغامرة إنسانية لصنع العجلة السومرية والكتابة والرقُم الطينية التي فُخرت من طين الأهوار المزروع بالبردي في الأرض المنخفضة في أقصى الجنوب الشرقي العراقي، تحيط بها ثلاث مدن عراقية كبرى البصرة والناصرية وميسان، بمسافة تزيد على 40 ألف كيلومتر، تشكل آخر بيئة في العالم القديم، عالم أوروك وحكايات الآلهة السومرية التي روتها عشتار في رحلة بحث عن تموز الأسطوري، وتركت وجعاً عراقيا ونشيجاً ظل يداعب مخيلة المغنيين في وادي الرافدين، وهم ينشدون لقيثارة الحزن السومرية وهي ترقد بعيدا ًفي عاصمة الضباب. حفظتها الحضارة من الزوال ومن النسيان كما حفظت مسلة حمورابي السوداء بالخط المسماري التي سرقها العيلاميون برهة من الزمن، ونقلت أيضاً إلى متحف اللوفر الباريسي لتسجل أعظم مقتنياته.
بيئة الأهوار المدهشة
في الأهوار لم يبق إلا القصب والمياه الراكدة، حيث يجتمع الناس والسمك معاً حين كان يطفو مرحاً في عالم “ميزوبوتاميا”، لحين أتت السياسة بجيوشها في الثمانينيات من القرن الماضي إلى بيئة الأهوار، وحولت تلك البيئة الآمنة التي لم يفزعها إلا فالة صياد سومري يزرقها في أجساد سمكة القطان والشانك، أو يلتقطها بشبكة صيد البني ( نوع أصغر من السمك) بما يقتات بها أهل أهوار الحويزة والحمار والصحين واللحيس، في معادلة تآلف مذهلة بين الإنسان وبيئته المائية الوادعة. هناك يعيش السكان على جزر عائمة يقومون على صناعتها من القصب والبردي تسمى “الشجة” و”السكفة”، ويتجمعون بمعدل 100 إلى 200 بيت في قلب الهور ليكونوا عالماً معزولاً عن المدن في عيشة آمنة، يتناسلون فيها بعيداً من ضجيج الآخرين في طوق اليابسة.
الحرب العراقية – الإيرانية وجع السنين
كل شي يتغير في الحرب عندما تحتدم الجيوش لتلُقي بنيران حقدها على الناس. حين يتحولون إلى أعداء تستحيل البيئة إلى خراب، كما صارت الأهوار العراقية أرض يباب للمرة الأولى منذ الخليقة، كل ذلك حتى لا يتسلل الجند عبرها إلى المدن التي تحادد مياه الأهوار، وسكانها الذين ظنوا أنهم آمنون لأبد الدهر، مستخدمين قوارب صغيرة تشق مياه الهور الضحلة تسمى “المشاحيف”، وهي تكاد تحمل شخصاً أو اثنين في الغالب، مصنوعة من القصب أو الخشب الخفيف، ويُرجح السكان المحليون بأن جلجامش الملك السومري الأسطوري كان أول من صنعه، ويضطر سكان الأهوار الى درء الفيضان ببناء صرح لهم اسمه “الأيشان” لا تصله مياه الصيف حين تذوب الثلوج في منابع الأنهر التي تغذي الأهوار عامة.
اقرأ المزيد
- رصد نوع جديد من الأفاعي السامة في الأهوار جنوب العراق
- الأهوار العراقية مملكة التنوع البيئي وقصة آخر حضارة سومرية
غير أن هذا الواقع المعزول الذي استمر مئات السنين مذ وجد الإنسان السومري قبل الميلاد لم يدم، حين قررت القيادات العسكرية العراقية إبان الحرب العراقية – الإيرانية تجفيف الأهوار تحت مسوغ وقف تسلل ألوية الحرس الإيراني عبر منافذ أهوار الحويزة المشتركة بين البلدين إلى الأراضي العراقية، وجندت الدولة كل آلياتها وجهدها الهندسي لتحويلها الى أرض يابسة بسرعة قياسية، تجنباً لمخاطر تدفق الحرس الثوري الإيراني.
تجفيف الأهوار السابقة الحزينة
استمرت سنوات من الجهد المضني لتجفيف مياه الأهوار وقطع سبل مدها بالمياه من نهري دجلة والفرات وروافدهما حتى تمكنت من تخريب تلك البيئة الفريدة التي لا تعرف غير أربعة مكونات، الماء والسمك والطيور المهاجرة وآلافف الفلاحين الذين يعتاشون عليها في رحلة سلام ورثوها من آلاف السنين، عالم يوتوبيا دمرته حرب الأعوام الثمانية (1980-1988) وقتل فيها مئات الآلاف من البشر، وجرح الملايين بشظايا المدافع والراجمات والقصف الذي ظل يدوي في سماء الأهوار والمدن والقصبات المحيطة بها سنوات في أطول حروب العالم المعاصرة، كانت محصلاتها مأساوية خربت بقايا العالم القديم المسمى بـ”الأهوار”، واختفت عوالمه وفر سكانه بعيداً نحو أطراف وقصبات المدن الجنوبية، وتسرب بعضهم للعاصمة ليشكلوا أكبر تحد لتريّفها في ما بعد، إلا الطيور المهاجرة النادرة بنظر سكان الهور فلها حكاية أخرى، إذ اعتادت أن تأتي من أقاصي البيئات الباردة في الشتاء بحثاً عن مسطحات أوروك في أقصى الجنوب العراقي، واستمرت بغريزتها واعتيادها الأسطوري لقرون وهي تقطع آلاف الكيلومترات من أقاصي الأرض إلى تلك البيئة التي تظنها آمنة وباقية على حالها، وظلت تمارس رحلة الانتقال السنوية وتأتي لتلقي بأعشاشها وبيوضها التي تنتظر مواسم التفريخ، لكنها كانت تتفاجأ نهاية الثمانينيات من القرن الماضي بأرض يباب خالية من مياه الهور والقصب والبردي الذي يحمي فراخها، فتظل تدور وتدور بحثاً عن مأوى قريب، تفزعها أصوات الانفجارات وتقتلها شظايا الحرب، فيعطف عليها الفلاحون عند اليابسة ليمنحوها قدرة البقاء بتقديم ما تيسر من غذاء أو يصطادونها لسد حاجتهم إلى الغذاء الذي حرموا منه.
ظاهرة تدفق النفط من الأرض الحارقة
الظاهرة الأخرى التي رافقت تجفيف الأهوار هي حين اكتشف الجيولوجيون والعاملون في القطاع النفطي أنها كانت بمثابة رئات لتبريد حقول النفط، فقد بدأ النفط بالتدفق على اليابسة كلما اشتدت سخونة الأرض فوق تلك المخازن العملاقة التي تشكل بحيرات رمادية تهدد حياة السكان في المدن القريبة، كون النفط يتوالد تحت الأهوار وبقربها بكميات مهولة، لكن جفافها جعله يتدفق ويتفجر من باطن الأرض الحارقة التي تصل حرارتها لأكثر من 60 درجة مئوية، بعد أن افتقد لحاضنته الطبيعية من مياه الأهوار.
يقول جبار اللعيبي وزير النفط السابق، “لقد عانى القطاع النفطي من تدفق النفط إلى السطح نتيجة خراب طبيعة البيئة المتجانسة التي كانت توفرها مياه الأهوار لحقول النفط وحاجتها للمياه، مما أنهك المتخصصين في هذا المجال للسيطرة والتحكم بهذه المشكلة البيئية”.
سكان الأهوار كانوا يستخدمون قوارب الخشب في عام 1978 (غيتي)
إعادة الحياة للأهوار والتوطين فيها
ظلت بيئة الأهوار تعاني مصادر ديمومتها بعد طمرها حتى بدأت تأفل رويداً رويداً إلى أن تغيرت بعد توقف الحرب، وعاد السكان إلى موطنهم بعد 2003، وهدأت المدافع وأقفلت فوهاتها، فشرعوا بإعادة إحيائها من جديد وسط عمل مضن لرفع السواتر الترابية بمساعدة جهد دولي، ليفتحوا منافذ المياه حولها ويمدوا بيئتها بالمياه من جديد.
كان عملاً شاقاً يصل حد اليأس من عودة الحياة فيها من جديد والمأل بنبضها مجدداً لكن المفاجأة حدثت حين نمت سيقان القصب المطمورة لأكثر من عقد من الزمن، بعد رفع الأتربة التي غطتها وأورقت بعد أن غمرتها المياه مجدداً، وإذا بها بعد 10 سنين من العمل التطوعي لمتخصصين في بيئة الأهوار تبزغ معالم جديدة، وتعود المياه لتُحيي وجودها الذي يشكل بيئة مميزة في الحضارة العراقية القديمة، ومصدراً ثرياً للثروة السمكية ومنتجات الجاموس والطيور التي تأتي إليها عند الشتاء مع توافد السياح إليها.
الأهوار ضمن لائحة التراث العالمي
لقد سعى العراق إلى إدراج هذه البيئة الفريدة في العالم في لائحة التراث العالمي التابع لـ “يونسكو”، كي لا تمتد إليها يد الخراب من جديد، ولتكون بيئة محمية دولياً لخصوصيتها، حتى تحقق ذلك في السابع من يوليو (تموز) 2016، وعد إدراجها في تلك اللائحة ضمن المواقع الفريدة التي تستوجب الحفاظ عليها والحؤول من دون اندثارها وتخريبها، ويلزم ذلك الجهات الحكومية وسواها بتوفير الظروف الملائمة للسياحة العالمية وتشجيع السياح من مختلف أرجاء العالم على زيارتها، حيث تتولى منظمة “يونسكو” مراقبة هذه المواقع والاهتمام بتطويرها، محذرة الجهات المسؤولة عند شعورها بالمخاطر التي يمكن أن تتعرض اليها أو وضعها في الخانة الحمراء للمواقع المهددة عندما تدرك وتقيم المخاطر التي تتربص بها، الأمر الذي منح بيئة الأهوار العراقية حماية دولية للمرة الأولى في تاريخها.
مشكلات وأزمات لم تنته
لكن بيئة الأهوار الجديدة لا تزال تعاني مشكلات وأزمات كثيرة بحكم الظروف التي تحيط بها، وعلى الرغم من إدراجها في اللائحة العالمية، فقد وصف ذلك نائب محافظ ذي قار أبو ذر العمر “بأن إدراجها ظل حبراً على ورق، ولم تضطلع وزارة البيئة بما يليق بمهمة إحيائها”. ويؤيده الكاتب العراقي محسن عزيز المتخصص في بيئة الأهوار ومشكلاتها قائلاً، “كان إدراجها ضمن لائحة التراث العالمي إنجازاً مهماً للأهوار والمحافظات الجنوبية، بالأخص ذي قار، إلا أن لجنة وزارة البيئة لم تلتئم في اجتماع واحد على الأقل لدرس سبل تطوير هذه المنطقة، وهو ما يقضي على إنجاز يونسكو وما تبقى منه”.
ويقول إياد خضير العكيلي، أحد المتابعين لتنامي بيئة الأهوار، “كنت قبل أيام في زيارة ميدانية لأهوار الجبايش في محافظة ذي قار، وكان أبرز ما رأيته الأماكن الجافة، وفيها القليل من المياه غير أن العمق صار أفضل، لكن أهلها يشكون الإهمال والعوز والفقر وفرص العمل، ولا يوجد ما يوحي أن لهذه المناطق من اهتمام يذكر”.
وانعكس واقع المدن الجنوبية على ما يحدث في الأهوار، خصوصاً بعد قيام إيران بتحويل مجرى نهر الكارون الذي يغذي الأهوار بالمياه طبيعياً، مما تسبب بالشح، إضافة لانحسار نهري دجلة والفرات نتيجة السدود التركية التي تحتجز مياههما من المنبع، الأمر الذي جعل بحبوحة العيش التي كان تتميز بها أرض السواد تذوي، والناس تعاني الأمرين، وهذا واقع من الفوضى ودول طامعة ترتب أوراقها ومصالحها.المزيد عن:العراقالأهوارتركياإيران