الأوبئة بوصفها مأساة وسخرية مرّة للبشرية

1

رسم تعبيري (النهار العربي)

رسم تعبيري

إذا أردت أن تتهكم بمرارة على البشرية المعاصرة، مع تجنب ذكر الحروب، فالأرجح ألا تجد أفضل من الأوبئة! لن تكون ريادياً في ذلك، الأرجح أنك تأخرت عن أرتال من الأدمغة في ذلك. وقد سبقك مثلاً، بيل غيتس، المؤسس الأسطوري لمايكروسوفت، الذي أطلق في 2018 الكلمات المريرة التالية “لو أخبرتم حكوماتكم الآن أن هناك تهديداً بأسلحة من شأنها أن تقتل 30 مليون شخص، فسيكون هناك شعور بالإلحاح بشأن الاستعداد للتهديد، ولكن في حالة التهديدات البيولوجية فإن شعور العجلة هذا غير موجود”.

جاءت كلماته كأنها نبوءة، وسبقت اندلاع جائحة كورونا بعام أو أقل. وأوقعت الجائحة وفيات مباشرة تفوق سبعة ملايين شخص، وعشرات أضعافهم من الإصابات. هل تعلمت البشرية شيئاً من ذلك؟ الأرجح أن لا!

وفيما لا تزال متحورات كورونا تتوالى، وتصيب وتقتل، انطلق مجدداً فيروس “جدري القردة”، وحلّ رعب في العالم من تحوله جائحة (على رغم أنه لن يغدو كذلك). وبسرعة، ظهرت نفس العيوب والثغرات التي رافقت جائحة كورونا، ربما لا ينقصها سوى مشهديات التصارع على الكمامات والقفازات الواقية و… ورق التواليت، إن كان ثمة من نسي ذلك.

البشرية غير متأهبة لأيّ جائحة

يزيد المأساة الساخرة مرارة أن “جدري القردة” انفلتَ فيما كانت ألسنة علمية كثيرة، تصرخ بأعلى صوتها أن العالم لم يستفد من تجاربه الحديثة مع الفيروسات.

ووفق مقال طويل نُشِر في مجلة “فورين أفيرز”، فإن البشرية ما زالت، رغم ضربات متكررة، غير متأهبة لمواجهة أي جائحة. وبسخرية، تحدث مؤلفا المقال، أحدهما بروفيسور في الأوبئة من جامعة مينيسوتا، عن إحباط من توقعوا زيادة الإنفاق العالمي على اللقاحات وإجراءات تشمل إرساء بنية تحتية لوقاية المجموعات البشرية من الأوبئة التي يرجح استمرار ضرباتها بأثر من التغيير السكاني وارتفاع درجة تنقل البشر وزيادة العمران الحضري الذي يترجم باقتحام متزايد من البشر للطبيعة، واضطراب علاقة الإنسان مع البيئة لأسباب تبدأ بأشكال التلوّث ولا تنتهي عند الاحتطاب الفائض للغابات والاصطياد الجائر والتضاؤل المستمر للتنوع البيولوجي وغيرها. وكذلك تسهم تلك العوامل وغيرها في تكاثر عناصر الأوبئة وفي تزايد تنقلها بين أنواع الكائنات الحية (وهي تتحور وتزداد قوة بسبب ذلك)، إضافة إلى تزايد التحور في التركيبة الجينية للفيروسات بما يجعلها أقرب إلى الاستعصاء على المكافحة والعلاج.

لا نعرف متى ومَنْ؟

ويركز المقال على فيروس أنفلونزا الطيور من نوع “إتش5 إن1” مشيراً إلى أن “من المستحيل معرفة توقيت اندلاع جائحة عالمية أو العنصر الوبائي الذي سيُحدِثُها”. وبمرارة، يلاحظ أن ذلك الفيروس “لم يتسبب بأي جائحة للبشر، إلا أنه استمر في الظهور ضمن آفاق الصحة العامة طيلة عقود”. أليست تلك ملهاة مأساوية؟ يدرك البشر طيلة عشرات السنين أن فيروساً ما سيصيبهم بجائحة تقتل ملايين منهم، ومع ذلك لم يصنعوا أي شيء أساسي حياله. ألا يذكر ذلك بأن العلماء ما فتئوا يحذرون منذ ثمانينيات القرن العشرين، زمن الإيدز ومرض ليجوان وهانتا وفيروس غرب النيل، من ظاهرة “الأوبئة الصاعدة والناشئة”  Emerging & Re- emerging Infections، من دون أن تخصص الحكومات جزءاً ولو يسيراً مما تنفقه على الموازنات المرعبة للجيوش، حتى بعد تيقنها قبالة أعينها أن فيروساً واحداً قد قتل سبعة ملايين بشري، بل إنه جاء من “عائلة” سبق لها أن قتلت قبل أكثر من قرن قرابة ثلاثين مليون بشري بضربة “الأنفلونزا الإسبانية”؟

ويذكِّر المقال عينه بأن ضربات “أنفلونزا الطيور” تكررت منذ 1996، مع التهديد بحدوث جائحة في 2003 و2005، ثم في 2009 و2010 “حين عُرِف شعبياً باسم فيروس الخنازير” (وقتل نصف مليون شخص) وغيرها.

ويشدد المقال على أن أي إجراءات جدية ضد الأوبئة تقتضي تعاوناً جدياً بين الدول المختلفة، لأن الأوبئة لم (ولن) تميّز بين دول غنية ومتوسطة وفقيرة.

هل تريد الانتهاء بأشياء طريفة ومريرة؟ حسناً، لقد قتلت الأنفلونزا الإسبانية التي تزامنت مع ختام الحرب العالمية الأولى، 2.7% من البشرية. إذا تكرر الرقم اليوم، يكون عدد قتلى الجائحة غير المُتأهب لها حوالي 200 مليون بشري. لا تقلق! ثمة إحصاءات بأن البشر الأحياء هم أقل من 7% ممن ولدوا منذ فجر الإنسانية. يعني ذلك أننا نموت في كل حال، أليس كذلك؟

التعليقات معطلة.