الأوكراني أندريه كوركوف يكتب “يوميات غزو” شاهدا على يأس شعب وآماله

1

“الدعم الغربي لأوكرانيا بات شاحباً وأعلامنا لا ترفع في البلدان الأوروبية”

مارلين كنعان أستاذة الفلسفة والحضارات، كاتبة وباحثة 

الروائي الأوكراني أندريه كركوف ومفاتيح العودة

يعتبر أندريه كوركوف من أبرز الروائيين الأوكران الذين ترجمت أعمالهم إلى العديد من اللغات كالفرنسية والإنجليزية واليابانية والصينية والسويدية والعربية. وها هو اليوم يقدم لقرّائه كتاباً بعنوان “يوميات غزو” Journal d’une invasion صدر حديثاً في باريس في ترجمة فرنسية عن دار “نوار سور بلان” Noir sur Blanc.

 كان كوركوف، وهو من الكتّاب الأوكران الأكثر مبيعاً في العالم، قد بدأ بوضع كتابه هذا عشية عيد الميلاد عام 2021، قبل أن تبدأ القوات المسلّحة الروسية في 24 فبراير (شباط) 2022 بغزو أوكرانيا، بعد أن كانت متمركزة سابقاً على طول الحدود. تبع هذا الغزو غارات جوية عنيفة استهدفت المباني العسكرية في البلاد، ودخول الدبابات والمجنزرات إلى مدن وقرى عدة عبر حدود بيلاروس. والكتاب عبارة عن شهادة حية يسرد من خلالها الكاتب أحداث هذه الحرب المدمرة وتبعاتها على مسرى حياة المواطنين العاديين القابعين في منازلهم تحت وابل من الرصاص والقذائف والصواريخ، منذ لحظة اندلاعها حتى منتصف يوليو (تموز) 2022. وهو أقرب في نوعه الأدبي إلى تدوين للوقائع واستكشاف للمعاناة الإنسانية في تداخل جميل بين المشاهدات والذكريات الشخصية والتعليقات السياسية والقراءات التاريخية للعلاقات بين التاريخ الأوكراني والتاريخ الروسي منذ قيام الاتحاد السوفياتي وصولاً إلى العهد البوتيني، وبين لغتي البلاد السلافيتين، الروسية والأوكرانية التي أصبحت لغة أوكرانيا الرسمية عام 1917.

316e0076db9f06c6fd4b970f5f0a4eac2e98ccf96d99180e808509c59067e48b.jpg

“يوميات غزو” بالترجمة الفرنسية (أمازون)

بنظرة ثاقبة وحب شديد للشعب الأوكراني، يصف كوركوف، المولود في لينينغراد عام 1961 والمنتقل مع أسرته إلى كييف وهو في سنته الثانية، كيفية مواجهة المجتمع السلمي للاحتلال، مظهراً لنا ثقافةً أوكرانيةً فريدة ومتنوعة، تتسم بالديمقراطية والليبرالية، ثقافة “ستقاوم حتى الرمق الأخير”.

بكاء أطفال ونحيب أمهات

يتابع كتاب “يوميات غزو” باهتمام كبير إذاً أحداث الحرب، راسماً لنا على طريقته صورة شعب موحد متضامن يكافح بشدة ضد اختفائه، يحضّر خبزه اليومي ويتقاسمه مع الآخرين بين الأنقاض، يساعد على إجلاء جريحٍ بُترت أطرافه على متن أحد القطارات، يساند الجدّات في هروبهن من المدن المحتلة وهن متأبطات ديوكهن، واصفاً بكاء الأطفال ونحيب الأرامل والأمهات الثكالى، ورحلة العائلات المضنية من كييف وغيرها من المدن إلى أماكن أقل خطراً… غير أن قصص الموت والخوف والبؤس والهروب التي تنقلها لنا هذه الحوليات تترافق في كثير من الأحيان مع قصص تؤكد على استمرار الحياة تحت الحصار، ولعلها هي دوماً الأقوى. إذ يروي لنا كوركوف قصصاً عدة تحكي عن ولادة الأطفال في الأقبية والملاجئ، وحراثة الفلاحين لحقولهم وزرعها على رغم القصف والألغام في سرد تتشابك فيه حياته الخاصة بحياة وقصص النازحين الأوكرانيين، كما تتشابك بقصص المجتمعات التي تساعدهم بكرم غير عادي، على انتظار اللحظة التي يمكنهم فيها العودة إلى بيوتهم وأراضيهم.

هذه المآسي التي تتراكم على تتابع فصول الكتاب المؤلف من 256 صفحة، والتي تُدخل القارئ إلى عمق الأحاسيس والهواجس التي يعيشها الكاتب بخاصة والشعب الأوكراني بعامة منذ اندلاع الحرب القذرة، جعلت من كوركوف، إلى جانب عدد من الكتّاب والشعراء والفنانين الأوكران، الناطقين الرسميين باسم الشعب من خلال نصوصهم وقصائدهم ويومياتهم التي نقلت إلى العالم أجمع الصور الحقيقية للمعاناة والآلام القاسية التي تعيشها أوكرانيا، والتي منعت وحشيتها أندريه كوركوف من متابعة كتابة رواياته الإبداعية، المتميزة بسخريتها اللاذعة وفكاهتها السوداء والتأثيرات السريالية، راوياً بدلاً منها يوميات الغزو الروسي.

الواجب الوطني

يطلق كوركوف على كتابه هذا صفة المساهمة في المجهود الحربي والتصدي للعدوان الروسي، ويقول إنه يندرج في إطار واجبه القومي تجاه بلاده، ولعله يرصد التأثيرات النفسية والإبداعية للحرب الروسية- الأوكرانية عليه وعلى عائلته وأصدقائه وجيرانه وسائر شركائه في المواطنة. ففي حين تتقدم القوات الأوكرانية في شرق البلاد وجنوبها، يرى الكاتب أن وظيفته تصبح “أن يشرح للآخرين، لا سيما للغرب، ما لا يعرفونه ولا يفهمونه عن أوكرانيا، وعن الصراع بين “الإخوة الأعداء”.

42716181_10160890390495427_4034424611205545984_n.jpg

كوركوف في مقهى (صفحة فيسبوك)

والكاتب المعروف عالمياً بروايته “البطريق” التي صدرت عام 1996 وترجمت إلى أكثر من 30 لغة، والتي تحكي قصة كاتب وبَطريقهِ الأليف ومشكلاته مع المافيا في فترة ما بعد الاتحاد السوفياتي، سبق له أن دُعي إلى أهم معارض الكتب والمهرجانات العالمية. وهو معروف أيضاً بروايته “عالم بيكفورد” التي تم ترشيحها لجائزة البوكر الروسية وإلى عددٍ من الجوائز الأخرى. كما فازت روايته “الأغنية المفضّلة لمواطن عالمي” في مسابقة أدبية ألمانية نظّمتها مؤسسة “هاينريش بُل”. أما روايته “النحل الرمادي”، التي تدور أحداثها في قرية صغيرة في منطقة دونباس شرق أوكرانيا، حيث أعلن المتمردون الموالون لروسيا استقلال مدينتي دونيتسك ولوغانسك عام 2014، فتحكي قصة آخر رجلين، سيرجيتش وباشكا، يعيشان على خط التماس المواجه لأمكنة الصراع، وتركز من خلال يوميات عيشهما على حياة السكان المدنيين الذين بقوا في منطقة الحرب. وإذ تعتبر هذه الرواية الكتاب الوحيد الذي يتناول الحياة في شبه جزيرة القرم منذ أن ضُمّت إلى الاتحاد الروسي، تقدم لنا كما “يوميات غزو” صورة حيّة ومفجعة للوضع في أوكرانيا.

والحرب في “يوميات” كوركوف تظهر بصورة صراع وجودي، قد تكون له تبعات على حياة الكاتب. إذ يخشى الروائي الممنوعة أعماله في روسيا، في حال انتصار بوتين، أن يصبح جزءاً من جيل الكتّاب والمؤلفين الذين تمت تصفيتهم في الثلاثينيات من القرن المنصرم. ولئن أدرك الخطر الذي يلاحقه، فإنه لا يتردد من إبداء رأيه بالأوضاع السياسية مشدداً على أن الدعم الغربي لأوكرانيا “أصبح اليوم باهتاً بعض الشيء”، وأصبحت الأعلام الأوكرانية نادراً ما ترفع في المدن الأوروبية. وكوركوف الموجود حالياً كأستاذ زائر في جامعة ستانفورد في ولاية كاليفورنيا الأميركية يتابع أخبار الحرب في بلاده ويقول إن الأوكرانيين يهتمون اليوم أكثر من أي وقت مضى بقراءة الأدب الذي يتناول سرديات الحرب وويلاتها، بعد أن كرّس العديد من الشعراء والروائيين الذين انخرطوا في صفوف الجيش، كتاباتهم وقصائدهم للحديث عن تبعات الغزو الروسي ومآسيه على الشعب الأوكراني، علماً أنه لم يكن في أوكرانيا قبل الغزو الروسي أدباً يهتم بالشعور الوطني وبموضوع الحرب وويلاتها. بل إن جلّ المؤلفات كانت منصبّة على مواضيع وهموم حياتية واجتماعية كالجنس والإدمان على المخدرات وموسيقى الروك، والقليل من التاريخ الأوكراني.

أوكرانيا الحرة

ويقول أندريه كوركوف إن “أوكرانيا اليوم على رغم مآسيها، إما أن تكون أوروبية، حرّة، مستقلة، أو أنها لن تكون على الإطلاق”. وها هو في هذا الكتاب يسعى في تعليقه على الأحداث إلى إظهار بلاده كدولة مستقلة تاريخياً، ليست جزءاً من الاتحاد السوفياتي السابق التي رزحت تحت نيره مدة 70 سنة، شارحاً الفرق بين الروس والأوكران، وبين التاريخ الروسي والتاريخ الأوكراني، وبين العقليتين الروسية والأوكرانية.

وإذ يشدد على أن “الأوكرانيين، وهم شعب عنيد للغاية، كانوا دوماً بعيدين من أي نوع من الحكم الإمبراطوري ولم يكن لديهم قيصر قطّ، كان الروس في المقابل يفضلون الاستقرار على الحرية، علماً أنهم أبدوا تمتعاً نسبياً بالحرية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. لكنهم أظهروا بعد وصول بوتين إلى السلطة وتدمير المعارضة أن الاستقرار بالنسبة إليهم أهم بكثير من الحرية ورمز الاستقرار عندهم هو القيصر بوتين. في حين كانت الحرية عند الأوكرانيين فوق كل اعتبار”.

 من هذا المنظار لا يتردد كوركوف من القول إنه في حال احتل الروس كييف سيسافر إلى الخارج. فهو غير مرحب به في بلده. ويقول إنه توقف عن مواصلة كتابة روايته الأخيرة، التي تدور أحداثها حول الحياة في كييف عام 1919 أثناء الحرب الأهلية، ليكتب مقالات ويوميات تتناول الحرب، دفاعاً عن قضية بلاده والتعريف بعدالتها، مؤكداً على إرادة الحياة وروح التضامن التي سادت بين مختلف طبقات الشعب.

في الختام لا بدّ من الاعتراف أن” يوميات غزو” هو كتاب مؤثر تقوم بنيته على الأمل وخيبة الأمل والعزة والتضامن والمواطنة. هو سرد حقيقي يشهد على رعب الحرب والحياة تحت القصف في مدن محاصرة، وعلى مقاومة شعب يعاني ولا يستسلم ويصر على البقاء على قيد الحياة. فيه يدون الكاتب المرتمي في مصير الناس الأحداث لحظة وقوعها، واصفاً ببراعته الأدبية تصارع قوى الموت والحياة وتغليب نزعة الدمار ونكران حرمة الآخر وتيه الجنون في ظلمات الدنيا.

التعليقات معطلة.