الإسكافي في سوريا يعود إلى السوق… بعدما صار الحذاء الجديد “يكسر الظهر”

1

مهنة قديمة تتجدد

عادت مهنة “الإسكافي” الذي يُعنى بإصلاح الأحذية القديمة والبالية للإزدهار، وشهدت نشاطاً أخيراً في سوريا، بعد سنوات من الاندثار لجملة أسباب تتعلق بالحداثة والانفتاح وسهولة الاستيراد وكثافة الصناعة والارتخاء المادي المعيشي قبل الحرب السورية. 
خيار الضرورةالإسكافي انتعش عمله، بعدما وصل سعر الحذاء الجديد الى ما يعادل في أدناه غالباً مرتب الموظف الشهري الذي يبلغ متوسطه (20 دولاراً)، فكان إقبال السوريين من جديد على أولئك الإسكافيين ما من شأنه إعادة إحياء المهنة التي اندثرت او كادت، ومعها أُعدم مورد دخل أصحابها الذين لا يتقنون غيرها صنعةً، إلى أن وجدوا أنفسهم من جديد على خريطة العمل بسبب أشخاص استغنوا مرغمين عن شراء الجديد وراحوا يصلحون ما لديهم لقاء مبالغ يمكن وصفها بالزهيدة.
التراث المهني التاريخيتَتَابُع المهن التي اندثرت أو كادت تندثر مع تلك المهدّدة بالاندثار يشكّل قلقاً على التراث المهني السوري عامّة، وخير دليل على ذلك الأهوال التي لحقت بالصناعات الشامية التاريخية كالزجاج والموزاييك والحِرف اليدوية والتي تشكّل التاريخ المادي الإنساني وجزءاً مهمّاً من هوية أيّ بلدٍ بمعزلٍ عن نوع المهنة نفسها، وبقدر أهمية ارتباطها بالذاكرة الجماعية للسكان.  صراع زمنين والحل بدولار واحدتتذكّر مروة جيلاتي الموظفة في إحدى الدوائر الحكومية، أنّ الإسكافي كان مقصداً لهم في صغرهم لإصلاح الأحذية، ولكن مع الوقت صار شراء الجديد يسيراً ومتاحاً وغير مكلفٍ ولا يمكن النظر إليه على أنّه “يكسر الظهر” بحسب وصفها.   

تقول: “قبل الحرب في سوريا كان ثمن الحذاء 10 أو 20 دولاراً مثلاً، ولكن ماذا يعني هذا؟ لا شيء، فبعض الرواتب بل ومعظمها تخطّت حاجز الـ 500 دولار وربما في بعض القطاعات وصلت إلى 1000 دولار وقتها، فكان شراء أحذية وملابس وطعام وكل شيء لا يشكّل نسبة أمام المرتبات الكبيرة في حينه، أما اليوم فراتبي يساوي حذاءً بالضبط”. وتتابع: “قصدت شارع الحمرا في دمشق لأشتري حذاءً رياضياً أعجبني فكان سعره 500 ألف ليرة سورية (35 دولاراً أميركياً)، وقفت مذهولة، دار في ذهني (فلاش باك) حول آخر راتب قبضته قبل أيام، ليتبين أنّ الحذاء أغلى من راتبي بأكثر من 10 دولارات. نظرت إلى الحذاء الرياضي الذي ارتديه، وقلت: حسناً، ماذا لو كان بدأ ينفك اللاصق بينه وبين نعله، ماذا يفعل الإسكافي في حياتنا إذاً؟ وبكل بساطة الصقته وعاد للعمل بعدما كلفني أقل من دولار واحد ثمن تصليحه”.  كرامة الجيل و”جيبته”“ليس لديّ القدرةٌ على شراء حذاء جديد وأنا شاب في مقتبل العمر، وبدل أن يكون لديّ حذاء يجب أن يكون لديّ عشرة، أليس هذا المنطق الطبيعي؟ وفوق كل ذلك أنا مهندس في بلد يعطيني راتباً لا يشتري حذاءً، راتب بالكاد يكفي مواصلات”. يقول المهندس طوني متّى لـ”النهار العربي”. ويكمل ساخراً: “إما أن اشتري حذاءً جديداً براتبي وأسير إلى عملي مشياً فيهترئ الحذاء، أو أظلّ ألبس القديم وأستقل المواصلات فأحافظ عليه”.يجد طوني أنّ ما يحصل غير منطقي، وأنّ محال بيع الأحذية تحوّلت الى واجهات عرض من دون زبائن أو حركة مبيعات، وأنّ اليوم كلّ حذاء ما لم يصل مرحلة الاهتراء الكامل فهو قابل للإصلاح حفاظاً على كرامة “الجيبة” كما يصفها، معتبراً أن لا كرامة باقيّة لجيلٍ شاب أحذيته ملصوقة أو مخيّطةٌ.
مصائب قوميبدو أبو محمد الذي يعمل مياوماً أكثر من لحقت به معاناة جرّاء ذلك الواقع المرير الذي حرم الناس من زيارة الأسواق وشراء ما يتخطّى كونه من بديهيات الحياة، فأبو محمد ربّ أسرةٍ ووالدٌ لخمسة أطفال عجز ويعجز عن شراء ملابس وأحذية لهم، معتمداً تدوير المتوافر من الملابس بين الإخوة وعلى مساعدات اللباس التي يمكن أن يحصل عليها بين وقت وآخر من جمعية أو جهة أو أشخاص. يقول أبو محمد: “خلال العام الماضي وجدت حلّا منقذاً في هذا الواقع، فبعض الأشخاص الذين يزورون الإسكافي لا تعجبهم النتيجة بعد الإصلاح، إذ تكون علامات الحياكة او الإلصاق واضحة جداً، فربما يخجلون من ارتداء الحذاء بعد ذلك ليتركوه لدى الإسكافي بعد الاستغناء عنه”.ويضيف: “صارت تربطني بسبب ذلك علاقة مع أكثر من إسكافي، واشتري منهم تلك الأحذية القبيحة بأقل قيمة مالية تُذكر، وبعضهم يمنحني إياها مجاناً، وربما هذا ما يُقال عنه إنّه: مصائب قوم عند قوم فوائد”.
مهنة الأثرياء صارت للمعدمينالإسكافي ناصر اسكندري الذي يمتلك محلّه الصغير في حي التضامن في دمشق قال لـ”النهار العربي”: “مهنة الإسكافي نتوارثها في عائلتنا أباً عن جد، كان والدي وجدّي يرويان لي أنّها كانت مقصداً لعليّة القوم ذات يومٍ قبل أن تصير هناك أحذية جاهزة، إذ كانوا يقصدوننا لتفصيل الجلد الفاخر، وكانت مهنة للأثرياء، ومع الوقت قلّ بريقها، ثمّ صارت مهنة شعبيةً بحتة”. ويكمل شارحاً: “لا يمكن القول إنّ هذه المهنة اندثرت تماماً، فدائماً هناك فقراء، لكنّها تراجعت الى حدود كادت تقارب الصفر هي وأرباحها وزبائنها، ما دفع غالبية ممتهنيها الى الإغلاق والتوجّه نحو مصالح أخرى، ولكن اليوم عاد الإقبال والطلب عليها في ظلّ كل هذا الغلاء الحاصل وعدم قدرة الناس على شراء الجديد”.وبيّن أنّ أجور الإصلاح تُعتبر زهيدة نسبياً وبحسب نوع الإصلاح، فهي تتراوح غالباً بين 15 و30 ألف ليرة سورية (دولار إلى دولارين). 
“لقد كنت حافياً يا سيدي”يستذكر السوريون على الدوام واحداً مما يصفونه بأفضل ما تمكن من كتابته الأديب السوري الراحل والشهير بأدبه اللاذع والساخر محمد الماغوط في كتابه “سأخون وطني”، عن قصته مع الوطن والحذاء ومساواته بين الاثنين. يقول الماغوط في تلك القصة القصيرة الساخرة:”-القاضي: هل كنت بتاريخ كذا، ويوم كذا، تنادي في الساحات العامة، والشوارع المزدحمة، بأنّ الوطن يساوي حذاءً؟ – المتهم: نعم. – القاضي: وأمام طوابير العمال والفلاحين؟ – المتهم: نعم. – القاضي: وأمام تماثيل الأبطال، وفي مقابر الشهداء؟ وأمام مراكز التطوع والمحاربين القدماء؟ وأمام أفواج السياح والمتنزهين؟ وأمام دور الصحف، ووكالات الأنباء؟ – المتهم: نعم. – القاضي: الوطن… حلم الطفولة، وذكريات الشيخوخة، وهاجس الشباب، ومقبرة الغزاة والطامعين، والمفتدى بكل غالٍ ورخيص، لا يساوي بنظرك أكثر من حذاء؟ لماذا؟ لماذا؟. – المتهم: لقد كنت حافياً يا سيدي!”

التعليقات معطلة.