الإسلام السياسي والدور الوظيفي

5

 

 

لم يعد السؤال المطروح اليوم هو: لماذا فشل الإسلام السياسي؟

بل السؤال الأدق والأكثر إزعاجًا: لماذا استُخدم، ولأي غاية استُبقي رغم فشله؟

ففي التجربة العربية عمومًا، والعراقية على وجه الخصوص، لم يكن الإسلام السياسي مشروع حكم بقدر ما كان أداة وظيفية أُدخلت إلى قلب الدولة، لا لبنائها، بل لإعادة تشكيلها بما يخدم معادلات أكبر من حدودها الوطنية.

من العقيدة إلى الوظيفة

حين انتقل الإسلام السياسي من الدعوة إلى السلطة، فقد جوهره الأخلاقي قبل أن يختبر قدرته على الحكم. لم يعد خطابًا دينيًا، بل لغة سياسية مغطاة بالمقدس، تُستخدم لتبرير السيطرة، وقمع الخصوم، وتعطيل الدولة باسم “الهوية” و“المظلومية”.

الدين، الذي يفترض أن يكون عنصر توحيد أخلاقي، تحوّل إلى أداة فرز سياسي، والسؤال الإيماني تحوّل إلى معيار ولاء. وهنا تبدأ الوظيفة:

إنتاج انقسام دائم يمنع قيام دولة مستقرة وقوية.

الدولة كمساحة مؤقتة

الإسلام السياسي لم يتعامل مع الدولة بوصفها وطنًا نهائيًا، بل بوصفها ساحة عبور لمشروع أوسع: أممي، طائفي، أو عابر للحدود. لذلك لم تكن السيادة أولوية، ولا المؤسسات هدفًا، ولا المواطنة قيمة حاكمة.

الدولة في هذا التصور ليست كيانًا يُحمى، بل أداة تُستخدم.

والدستور ليس عقدًا اجتماعيًا، بل نصًا يُفسَّر عند الحاجة ويُعلَّق عند الضرورة.

السلاح… ذروة الدور الوظيفي

حين يعجز الإسلام السياسي عن الحكم، يلجأ إلى السلاح.

ليس لأن السلاح جزء من العقيدة، بل لأنه ضمانة استمرار الوظيفة. فوجود سلاح خارج الدولة يعني بقاء الدولة ضعيفة، وبقاء القرار موزعًا، وبقاء الحاجة قائمة إلى “الفاعل غير الرسمي”.

وهنا يصبح الإسلام السياسي مفيدًا إقليميًا ودوليًا:

قوة لا تحكم جيدًا، لكنها تمنع غيرها من الحكم.

سلطة لا تبني، لكنها تعطل البناء.

لا تسقط الدولة تمامًا، ولا تسمح لها أن تنهض.

المفارقة الكبرى

المفارقة أن الإسلام السياسي، الذي رفع شعار “مقاومة الهيمنة”، تحوّل عمليًا إلى أداة داخل منظومة الهيمنة نفسها. فهو يضمن الفوضى المنضبطة، ويمنع الاستقرار السيادي، ويُبقي الدول في حالة توتر دائمة قابلة للإدارة من الخارج.

ليس صدفة أن يُسمح له بالبقاء رغم فشله الاقتصادي، وانهياره الخدمي، وتآكله الشعبي. الفشل هنا ليس خطأً… بل جزء من الوظيفة.

الخلاصة

الإسلام السياسي لم يسقط لأنه لم يُحاسَب بوصفه مشروع حكم، بل استُهلك بوصفه مشروع تعطيل.

وحين ينتهي دوره الوظيفي، لن يُصلَح… بل سيُستبدل.

أما الدولة، فلن تُبنى إلا عندما يُنزع عن السياسة قناع القداسة، ويُعاد الدين إلى مكانه الأخلاقي، وتُعاد السلطة إلى وظيفتها الطبيعية: خدمة الوطن، لا استخدامه.

ذلك هو الامتحان الحقيقي لما بعد الإسلام السياسي،

وهو امتحان لم يبدأ بعد.

التعليقات معطلة.