فاروق بلمعطي
مع حلول عصر الأنوار الذي حلّ بالبشرية قبل قرون من الزّمان، نظّر أعلامه لفكرة جوهرية مفادها أن: الإنسانية مجموع متضامن ومتماسك على خلفية أنّ الإنسان أخ للإنسان على هذه البسيطة أو الكوكب الصغير.
ومع توالي القرون، أصبح لائحًا أنّ مبادئ الأنوار لا تغدو إلا أن تكون حبرًا على ورق وأفكارًا مثالية وجدت البشريّة نفسها عاجزة عن تحقيقها، رغم توافر كلّ الظروف المناسبة لذلك. إلّا أن الإنسان يأبى في كلّ مرّة إلّا أن يُغلّب جانبه الوحشي على الغايات والأهداف السّامية التّي يخطّها عقلاؤه. حتى أصبحنا في عالم اليوم نعيش لنتساءل.
أين ذهب البشر؟ أين يختبئون في حين يتصدّر الإنسان اللاإنساني الجزء الأمامي من خشبة المسرح؟ والمشهد بالطبع هو من صنيع الإعلام، والشبكات الاجتماعية، ومنتديات المناقشة، حيث يكثر العدوان والمضايقات اللّفظية التي يتلقّاها الإنسان دون ذنب اجترحه، فقط لأنّه أبدى رأيه المختلف (الإنساني). أيضا يجب ألّا ننسى مجال الحياة اليومية، حيث يسود عدم الاحترام، والشتائم، والوحشية، والتهديدات والعنف وغيرها من أعراض الانحدار الإنساني والأخلاقي.
فمن صور ما نعيشه اليوم في عصر إنساني يفتقد معاني الإنسانية هو أن من يتصدّر مراكب الشعوب والأمم في عصرنا، عصر الليبرالية الجديدة في مرحلتها المعولمة لم ينشغلوا بالمثاليات أو بما يجب أن يكون المجتمع والإنسان عليه ثقافة، وقيمًا، وأخلاقًا. بل اهتمّوا بما يحقّق المغانم المالية والمادية في اقتصاد ليس فيه شيء من أهداف الإنسانية، وقد سبق أن أشار الكثير من المفكرين إلى خطورة المرحلة الحالية من تاريخ الحياة البشرية. حيث أصبحنا لا نعير أدنى اهتمام للمجتمعي، والثقافي والإنساني. وميلنا نحو ثقافة عدوانية اتجاه المختلف وإقصائية اتجاه الأصوات الإنسانية فينا.
لا يمكن لعاقل مستبصر بأزمة العالم المعاصر، وما يصادف فيه الإنسان من مظاهر للعنف والإقصاء والعنصريّة الدّينية كما العرقيّة أن ينكر أنّ البشرية في ورطة حقيقية لا خلاص منها إلا بتحرير العالم من براثن الظلم والإرهاب والاستبداد الذي استشرى وأصبح سائدًا في كل الأوساط المجتمعية مهما بلغت من الرّقي والتمدّن ومهما انحدرت وهوت في بوتقة الجهل والتخلف والعنف.
هذه الظاهرة المرّة لا تقتصر على صقع واحد من أصقاع العالم، بل تعمّ وتسود أنّى حلّ الإنسان وارتحل. فمن الجليّ أنّ إنسان العصر أصبح مسلوب الإرادة، مسلوب الكرامة، مسلوب الحرية. رغم أنّ الفلسفة التي قامت عليها مجتمعاته (الحديثة) ترتكز على هذه الرّكائز الثلاث وتصنّفها كغايات للإجتماع البشري. فأين الخلل؟ مادام الإطار النّظري يتغيّى تحقيق المسلوب. ونشر ثقافة الحريّة والكرامة والإرادة الحرّة، وتحرير الإنسان من وحشيته وجشعه وأساليب حياته العتيقة، هذا إضافة إلى تحضيره وتمدينه وأنسنته.
من بين الحقائق الصّارخة، أنّ عالم القرن الحادي والعشرين لم يشذّ في طبيعته عن باقي الأزمان الغابرة، فهو عالم محكوم بمنطق القوّة والغلبة والبأس الشديد. عالم تتراجع فيه الأخلاق والمبادئ والقيم، لتسود في الوحشية والإجرام والإرهاب. عالم يتراجع فيه أصحاب الكفايات والمهارات والخُلق الحسن، ليسود فيه المجرمون والطّغاة الجبابرة والمجانين. عالم تتقهقر إنسانيته شيئًا فشيئًا، ولا يتقدّم المشهد فيه إلاّ من وضع رحمته جانبًا وتخلّى عنها. فالسّائد اليوم لا يختلف كثيرًا عن سائد الأمس، وإن كان مشيدًّا على دعائم القيم الإنسانية الجليلة.
هذا الواقع البائس تعيشه المجتمعات أيضًا، الدّيمقراطية كما الاستبدادية. ويجعل الحياة شيئًا فشيئًا أصعب على كلّ من اختار أن يسبح عكس التيّار ويندّد بهذه الأنوميا بتعبير دوركايم. فتواجد هذه الأصوات بل وتكاثرها يومًا بعد يوم رغم القيود والأغلال المفروضة عليها من المجتمع الرّافض للعلاج، وبدرجة أولى من كلّ مستفيد من الوضع السّائد يضيء الصّورة القاتمة التي رسمناها في الأسطر الأولى، ويبعث الأمل في أنّ المعدن الإنساني الأصيل لا يزال حيّا وقادرًا على الانبعاث من جديد وسط هذا الكمّ الهائل من العنف والدّمار والإجرام.
الإنسانية اليوم أمام اختبار جديد ومطبّات أصعب من أيّ وقت مضى، فنحن البشر البسطاء نستطيع لو صحّ منّا العزم ولم ننثن ونتثنّ أو ننكسر أو يتثلّم حدّنا، نستطيع تحقيق التّوازن بل والعودة إلى صدارة المشهد، وذلك بتشييد فلسفة جديدة للحياة، تُعلي من شأن الإنسانية والأخلاق والقيم، وتعزز روح الاختلاف والحوار. وترسيخ هذه المرامي لا بدّ أن يُستهلّ من ذواتنا فمجتمعاتنا فالعالمين.