الإيديولوجيا تفوق الدبلوماسية في قرار الحج الخاص بإيران

1

مهدي خلجي

عشية الخامس من أيلول/سبتمبر، سيؤدي أكثر من 86 ألف حاج إيراني فريضة الحج، بعدما اتخذت السعودية تدابير لإصدار تأشيرات الحج مجدداً إلى الإيرانيين عقب تعليقها لمدة عام. وتأتي هذه الخطوة أيضاً في أعقاب تحركات قامت بها طهران في تموز/يوليو ترمي إلى استئناف العلاقات الدبلوماسية مع الرياض، بعد مرور أكثر من عام على قيام متظاهرين إيرانيين بالاعتداء على السفارة السعودية في طهران.

وتشمل مصادر الخلاف الإضافية بين الجمهورية الإسلامية والمملكة حادثة التدافع في أيلول/سبتمبر 2015 التي أسفرت عن مقتل مئات الحجاج الإيرانيين في “مِنى” في مكة المكرمة – مما أدى إلى قيام طهران بإطلاق تصريحات ملهبة بشكل ملحوظ – فضلاً عن اتباع إيران مواقف تقف على طرفي نقيض من تلك التي تتبعها السعودية تجاه الحروب في سوريا واليمن. ومن جانبهم، يرى السعوديون وأقرانهم السنة، السعي الإيراني إلى الهيمنة الإقليمية بقلق كبير. وعلى الرغم من هذه التوترات، تفاوض ممثلو المرشد الأعلى مع المسؤولين السعوديين بجدية لإعادة فتح الطريق أمام الحجاج الإيرانيين، مما يدل على الأهمية الاستراتيجية للحج بالنسبة للمسؤولين الإيرانيين، على الرغم من التنازلات الهامة التي مثلتها للمتشددين في النظام.

الخلفية

قبل حدوث التحوّل في الاتجاه هذا العام، كان لدى الإيرانيين أسباباً للشك في إمكانية توجههم لأداء فريضة الحج في أي وقت قريب. وكان هذا هو الحال نظراً لإطلاقهم تصريحات استفزازية مناهضة للسعودية واتباعهم سياسة إقليمية عدوانية – وكلتاهما صدرت عن المرشد الأعلى علي خامنئي – فضلاً عن العلاقات الأمريكية الحميمة القائمة مع الدول السنية الإقليمية. وفي الواقع، إن آية الله خامنئي هو صانع القرار النهائي في شؤون الحج.

وتعود العلاقات المتوترة بين القيادة الدينية الإيرانية ومضيفيها السعوديين إلى عام 1987 على الأقل، عندما وقعت مواجهات في مكة المكرمة بين قوات الأمن السعودية وحجاج شيعة، مما أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 400 إيراني. وفي ذلك الوقت، كان الحجاج الإيرانيون يشتهرون بضلوعهم في مظاهرات صاخبة كانت موجهة نظرياً ضد الولايات المتحدة، ولكنها استهدفت المملكة ضمنياً. بالإضافة إلى ذلك، زعم السعوديون بأن العديد من المتظاهرين الإيرانيين كانوا يحملون الأسلحة. وفي أعقاب تلك المأساة، أعلن آية الله روح الله الخميني أنه لا يمكن للجمهورية الاسلامية أن “تتجاهل المسألة السعودية”، تماماً كما لا يمكنها تجاهل القدس او الأخطاء التى ارتكبها الرئيس العراقى صدام حسين. وقد أُعيدت العلاقات الدبلوماسية في عام 1991 بعد عامين من وفاة الخميني إلا أنه لم يتم تماماً تطبيع العلاقات بين البلدين.

وفي 7 كانون الثاني/يناير 2016، وردّاً على حادثة “مِنى” في وقت كان فيه الخلاف السعودي-الإيراني قد احتدم، وعد ممثل آية الله خامنئي لشؤون الحج والزيارة علي قاضي عسكر بالتعمق في القضية بشكلٍ أكبر، مدعياً كذلك أن القرارات المتعلقة بالحج منوطة حصراً بالمرشد الأعلى. وألمح إلى أن إدلاء الآخرين بأي تعليقات في هذا الشأن هو أمر خاطئ. وأضاف، بأن ذلك يعكس على ما يبدو وجهات نظر خامنئي بأن الحج – “حتمية إلهية” و “دعامة الإسلام” – “لا يمكن أن يُعلق بسهولة”. وبعد ذلك بسعيه إلى تأكيد الفصل بين الحج والمسائل السياسية اليومية، عرض التحذير بأن الحج، بوصفه واجباً دينياً، يجب أن يكون مشروطاً بسلامة وأمن الحجاج وأن الجمهورية الإسلامية، من خلال مبادئها الأيديولوجية، تسمح بالفعل للمرشد الأعلى بتعليق الالتزام بمبادئ الإسلام، بما في ذلك الحج والصوم والصلاة. وفي كانون الثاني/يناير 1988، كان الخميني نفسه قد جعل هذه النقطة واضحة رداً على خطبة صلاة الجمعة ألقاها الرئيس الإيراني آنذاك خامنئي، حين أكّد أن الحج يمكن أن يتوقف مؤقتاً “إذا اعتُبر أنه يتناقض مع مصلحة الدولة الإسلامية”. وهكذا، يُحدد المرء أسس تعليق الحج في الفقه الإسلامي وفي أيديولوجية النظام الإيراني.

المشاكل الإيرانية الأوسع مع الحج

خدمت الانتقادات الإيرانية للحج، المتأصلة غالباً في التعصّب المناهض للعرب، أغراضاً متعددة. وهناك عبارة شائعة تقضي بأن الحج عمل جيد بالنسبة للعرب. وبحذق أكبر، في السنوات الأخيرة، قامت الدعاية المعادية للسعودية بحشد القوميين الإيرانيين المناهضين للعرب – وهي كتلة مناهظة للنظام تاريخياً – من أجل القضية. كما أن الإسلاميين المتشددين – الذين يدعمون سياسات إيران الإقليمية، وخاصة في سوريا، من منظور أيديولوجي – قد اتحدوا وراء مبدأ معارضة السعوديين. وقد رحبت هذه العناصر المجتمعية بتعليق الحج وقلقت من إعادته إلى الوضع السابق.

وكان الضغط العام على هذه الجبهة قوياً بما يكفي بحيث أنه في 18 آذار/مارس، عندما أعلن عسكر، ممثل خامنئي، اتفاق الحج مع السعوديين، شعر بالحاجة إلى تبرير هذا القرار: “لقد اتفقنا مع السعوديين على فصل طقوس الحج عن السياسة وقدّموا تنازلات بشأن توفير ما يلزم من كرامة وأمن للحجاج. إلا أن الحج قد استُهدف بهجوم لم يسبق له مثيل شنته عناصر معادية للثورة”. وبعد أن أشار إلى أن “الحصول على تأشيرة من بلد ثالث هو تحت كرامة إيران”، أوضح أن السعوديين قد وافقوا على إصدار مثل هذه التأشيرات إلكترونياً. وأضاف أن الرياض اعترفت بالمسؤولية عن حادث “مِنى” وأن مجموعة بن لادن السعودية ستدفع تعويضات لأسر الضحايا.

ثم تحدث عسكر عن الادعاء القائل بأن أداء فريضة الحج هو بمثابة “ملء لجيوب السعوديين” لكي يتمكنوا من محاربة الحوثيين المتحالفين مع إيران في اليمن. وقال أنه من المؤكد أن البعض سيجادل بأن النهوض بمستوى المعوزّين في البلاد سيكون أفضل استخدام للمال الإيراني. غير أن السؤال يظل قائماً فيما إذا كان ينبغي تعليق القيام بواجب ديني لصالح ممارسة جيدة أخرى. وفي 9 آب/أغسطس، وعلى نحو مماثل، رأى عسكر أن “بعض الجماعات تستغل موسم الحج بهدف نشر أفكار عنصرية ومنافية للدين”، لكن الجمهورية الإسلامية لا يمكنها أن تحرم الناس من أداء هذه الفريضة الدينية، مضيفاً أن السعوديين لم يكونوا الوحيدين الذين استفادوا مادياً من موسم الحج؛ فالأموال تدفقت إلى الإيرانيين أيضاً.

طمأنة المصلين

في 22 نيسان/أبريل، وبعد مرور شهر على رفع تعليق منح تأشيرات الحج، ردّ “مكتب الخميني لبعثة الحج” على تصريحات مناهضة للسعودية أدلى بها إمام صلاة الجمعة في طهران محمدعلي موحدي کرماني. وكان الإمام قد زعم، على سبيل المثال، أن “السعوديين يدّعون أنهم يتّبعون تعاليم الإسلام والقرآن، في حين أن كل خطوة يقومون بها هي ضد مصالح العالم الإسلامي”. وفي ردّها، أشارت البعثة إلى أن “مسؤولي الجمهورية الإسلامية لم لم يسبق لهم بتاتاً أن أيّدوا، ولا يؤيدون تعليق الحج”. وحيث فصل البيان بين الفريضة الدينية والعلاقات الدبلوماسية السعودية – الإيرانية المتوترة، طمأن الإيرانيين بأن الحجاج الشيعة من مختلف الدول قد شاركوا في مناسك الحج في عام 2016 دون أن يواجهوا أي تهديد. وفي الوقت الذي يعترف فيه البيان بالقوى التي “تعمل على منع أو تقليل الوجود الشيعي في طقوس الحج، وتنشر الأكاذيب بشكل خبيث” استناداً إلى أهداف مضادة للأديان وأخرى متعددة الجنسيات، نصح البيان كرماني بأننا “نؤمن بأن اتخاذ خطوات نحو خفض التوتر بين الأمة الإسلامية هو أمر ممكن باستخدام دبلوماسية الحج؛ وبالتالي، فإن هذه اللغة المسيئة ليست مثمرة”.

وفي 16 أيار/مايو، ردد عضو في بعثة الحج التابعة للمرشد الأعلى، تأكيد أقرانه بأن الظروف مناسبة للحجاج الإيرانيين. وبرفضه الادعاءات بأن السعوديين سيستفيدون بلا مبرر من الناحية الاقتصادية، أشار إلى أن المملكة “لم تكن بحاجة إلى عائدات من ستة وثمانين ألف حاج إيراني”.

آلية بيروقراطية

في إيران، تسيطر الحكومة على كافة تفاصيل الحج، حيث يتمّ توزيع الأدوار بين هيئتين: ممثل المرشد الأعلى لشؤون الحج والزيارة، الذي يراقب مكتبه المكونات السياسية والدينية ويعمل مباشرة تحت إشراف آية الله خامنئي، و”منظمة الحج والزيارة” المسؤولة عن الشؤون اللوجستية والخدماتية والإدارية. وبالفعل، تُعتبر هذه “المنظمة” الضخمة التابعة لـ “وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي” مسؤولة عن تنسيق عملية الحج بأكملها. وهي تضمّ 2150 فرعاً ونحو 60 ألف مدير وموظف في جميع أنحاء البلاد، وتقوم بخدمة أكثر من مليونيْ حاج إيراني سنوياً الذين لا يزورون المواقع السعودية فحسب، بل أيضاً الأماكن الشيعية المقدسة في العراق وغيرهما من الدول.

وفي العام الماضي، زاد الرئيس الإيراني حسن روحاني الميزانية الإسمية لـ “منظمة الحج والزيارة” من 842 ألف دولار إلى مليون دولار، إلّا أن هذه الأرقام لا تشكّل حتى جزءاً صغيراً من مواردها. ففي الواقع، تعمل “منظمة الحج والزيارة” كوكالة سفريات ضخمة تقوم بجمع كافة رسوم الحج. وأحياناً، يتعيّن على مقدمي الطلبات الانتظار سنوات بين مرحلة تسجيل أسمائهم وموعد الرحلة، ويُطلب منهم تسديد فارق التكلفة المترتب بين موعد تقديم الطلب وموعد الانطلاق. وفي حين تبقى أسماء الحجاج التواقين على قوائم الانتظار لفترة طويلة، يدخل عدد كبير منهم السوق السوداء آملين تنفيذ خططهم في وقت أسرع.

وفي المستندات التأسيسية لمكتب “ممثل المرشد الأعلى لشؤون الحج والزيارة”، تبرز لغة معينة من بين أربع عشرة مهمة رئيسية محددة:

· استخدام دبلوماسية الحج لتوحيد “الأمة” الإسلامية بحيث تعكس إطار عمل السياسات العامة للحكومة

· تطوير استراتيجية وتخطيط سياسة خاصة للمهمة الدولية للحج

· إجراء أبحاث خاصة بالخرافات والانحرافات والهرطقة ومواجهتها

· الإشراف على جمع الضرائب الدينية وتخصيص مزاياها

· إصدار الكتب والمواد الثقافية الأخرى وتوزيعها

من ناحية أخرى، تتألف الموارد المالية للممثل من تبرعات المرشد الأعلى، وميزانية الحكومة، وتبرعات يقدمها أفراد وهيئات أخرى فضلاً عن الدخل من الأنشطة الثقافية والفنية وغيرها.

وتدير سلطات شيعية أخرى مكاتبها الخاصة لبعثات الحج في مكة المكرمة والمدينة المنورة، إلى جانب رجال دين مقيمين في مدينة قم، بمن فيهم ناصر مكارم الشيرازي وعبد الله الجوادي الآملي وحسين نوري الهمداني وجعفر السبحاني وحسين وحيد الخراساني وموسى الشبيري الزنجاني ولطف الله الصافي الكلبايكاني ومحمود الهاشمي الشاهرودي وكاظم الحائري. أما رجال الدين المقيمين في النجف الذين يرأسون البعثات فهم محمد إسحاق الفياض ومحمد سعيد الحكيم وعلي السيستاني.

وفي مقابلة نُشرت في أيلول/سبتمبر 2016 في مجلة “مباحثات” الدورية التي تصدر في مدينة قم، أوضح محمد مهدي معراجي الذي يمثّل رجل الاتصال بين خامنئي وبعثات السلطات الدينية الأخرى، أن هذه البعثات التابعة تقدّم إرشاداً دينياً إلى المؤمنين حول فريضة الحج “من كافة أصقاع العالم الشيعي”. وتابع قائلاً إن “أولئك الشيعة الذين يعجزون عن التواصل بسهولة مع إيران يمكنهم القدوم إلينا – فنحن تَجمّع ضخم لشؤون الحج – والحصول على إجابات عن الأسئلة التي يريدونها”. وأسهب بالقول إنه بالمعنى الأشمل، تتبع “المراجع” (أي السلطات الدينية التي وصلت إلى مرتبة آية الله العظمى) المؤسسة الدينية الإيرانية، حتى إن لم تتوافق تماماً مع مواقفها أو أسسها الفكرية. وبالتالي، عندما أعلنت بعثة المرشد الأعلى أنها لن تشارك في الحج عام 2016، حذت السلطات الدينية الأخرى حذوها.

الاستخدامات وسوء الاستخدامات الإيديولوجية للحج

إلى جانب الأموال المخصصة في الميزانية التي يُسمح لممثل المرشد الأعلى تحويلها إلى السعوديين، يتلقى المكتب تبرعات نقدية أو ضرائب من حجاج إيرانيين وغير إيرانيين على حد سواء. وعادةً ما يقوم المكتب بتوزيع هذا الدخل غير الشفاف في أوساط الحجاج الآخرين والقادة الشيعة حسبما تقتضيه مصالح الحكومة المختلفة. وعلى نطاق أوسع في هذا الصدد، يوفّر موسم الحج فرصة للجمهورية الإسلامية لإيصال إيديولوجياتها إلى المسلمين السنّة والشيعة على حد سواء، ولتكرار سياساتها الصارمة المعادية لإسرائيل والولايات المتحدة، لا سيما فيما يخص تطبيقها في المنطقة.

وعلى صعيد سعي إيران القديم العهد إلى تولي قيادة “الأمة” الإسلامية العالمية، يمثل استئناف المشاركة في مناسك الحج خطوةً منطقية تماماً. فالحل البديل كان سيعزل الجمهورية الإسلامية عن المسلمين في العالم، مما يجعل البلاد أكثر عرضةً لحملات دعائية تشنّها حكومات سنّية وكيانات سلفية.

إن دور إيران في الأزمة السورية جعل مثل هذه الخطوة أكثر إلحاحاً. وبالفعل، ينبعث انخراط إيران الكبير في الحرب من تصور تاريخي بأن الأقلية الشيعية تتألف من المسلمين غير الشرعيين الذين لديهم طموحات إمبريالية وأفكار تكفيرية، الأمر الذي يهدد المجتمع الإسلامي الأكبر. وإلى جانب مقاومة الضغوط الشعبية للإبقاء على تعليق الحج، خفف آية الله خامنئي والمسؤولون العاملون تحت إشرافه من حدة خطابهم المعادي للسعودية، ودعوا الحجاج الإيرانيين إلى تجنب أي تصرفات استفزازية ونصحوهم بتأدية الصلاة مع السنّة في المسجد الحرام والتقيّد بتعليمات إمامه. وتهدف مثل هذه الخطوات إلى إظهار الحكومة الإيرانية بمظهر عضو لا يمكن فصله عن “الأمة” ذات رؤية وخطوات دينية محضة.

وفي السنوات المقبلة، لا يمكن تصوّر تحقيق تقدّم في العلاقات الدبلوماسية السعودية – الإيرانية، ولكن من المرجح أن تواصل الجمهورية الإسلامية جهودها الرامية إلى فصل الحج عن الدبلوماسية الثنائية الأوسع، وبالتالي تترك الباب مفتوحاً أمام الحجاج الإيرانيين.

التعليقات معطلة.