الاحتفال “المبكر” بالانتصار على التّضخم… هل تعلم العالم “درس السبعينيات”؟

1

رجل يشتري فاكهة في أحد الأسواق الشعبية في طوكيو

في أوائل السبعينيات من القرن الماضي، أدى الصراع في الشرق الأوسط (حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973) إلى ارتفاع أسعار النفط، ما جعل البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم تسعى جاهدة للسيطرة على التضخم. وبعد عام أو نحو ذلك، استقرت الأسعار وبدأ التضخم في التراجع. اعتقدت حينها العديد من البلدان أنها استعادت استقرار الأسعار وخففت السياسة لإنعاش اقتصاداتها المتضررة من الركود فقط، لتشهد عودة التضخم من جديد.. فهل يمكن للتاريخ أن يعيد نفسه؟

بينما تشهد معدلات التضخم تباطؤاً من شأنه أن يثير حالة من التفاؤل في الأسواق، ويرفع توقعات خفض الفائدة بحلول صيف 2024، وذلك بعد اتباع معظم البنوك المركزية نهجاً أكثر تشدداً منذ عام 2022 لكبح جماحه، فإن “دروساً تاريخية” تُحذر من “الاحتفال المبكر بالانتصار على التضخم”.

دراسة حديثة نشرها صندوق النقد الدولي، أجراها كل من أنيل آري وليف راتنوفسكي، أشارت إلى أنه من خلال تحليل 100 صدمة تضخمية منذ سبعينيات القرن العشرين، فإن ثمة مؤشرات قيمة لصناع السياسات اليوم، تؤكد ضرورة الحذر لسببين رئيسيين.

السبب الأول هو أن “التاريخ يعلمنا أن التضخم مستمر، ويستغرق الأمر سنوات حتى يتسنى الانتصار عليه عن طريق خفضه إلى المعدل الذي كان سائداً قبل الصدمة الأولية، فقد فشلت 40 في المئة من البلدان التي شملتها الدراسة في حل صدمات التضخم حتى بعد مرور خمس سنوات، واستغرق الأمر بالنسبة لـ60 في المئة المتبقية ثلاث سنوات في المتوسط لإعادة التضخم إلى معدلات ما قبل الصدمة”.

والسبب الثاني  يتعلق بأن البلدان تاريخياً احتفلت بالانتصار على التضخم وخففت السياسات قبل الأوان؛ في استجابة للانخفاض الأولي في ضغوط الأسعار. وكان هذا مساراً خاطئاً لأن التضخم سرعان ما عاد.

وكانت كل من الدنمارك وفرنسا واليونان والولايات المتحدة من بين ما يقرب من 30 دولة – شملتهم تلك الدراسة – التي قامت بتخفيف السياسة قبل الأوان بعد صدمة أسعار النفط في عام 1973.. ومن ثم، يتعين على صناع القرار السياسي اليوم ألا يكرروا أخطاء أسلافهم.

تؤكد نتائج الدراسة صحة موقف محافظي البنوك المركزية  في التحذير من أن معركة التضخم لم تنته بعد، حتى مع إظهار القراءات الأخيرة اعتدالاً مرحباً به في ضغوط الأسعار.

لكن على الجانب الآخر، لا يعتقد محللون أن ظروف التضخم الحالية هي نفسها الظروف السائدة في فترة السبعينيات، لا سيما أن أسعار النفط على سبيل المثال لم تتأثر تأثراً واضحاً بالصراع الحالي، غير أنهم لم يستبعدوا سيناريو تفاقم التضخم جراء التوترات الجيوسياسية الراهنة وتصاعد المخاطر، والسيناريوهات المطروحة بما في ذلك سيناريو توسع دائرة الحرب.

أسعار النفط

من لندن، يقلل الرئيس التنفيذي لمركز كوروم للدراسات الاستراتيجية، طارق الرفاعي، في تصريحات خاصة لـ”النهار العربي”، من تأثير التقلبات الجيوسياسة في منطقة الشرق الأوسط على أسعار النفط بحدة، موضحاً ذلك بقوله: “بعد السابع من تشرين الأول الماضي، حدثت قفزة بأسعار النفط، ثم بعد ذلك بأسبوعين أو ثلاثة بدأت الأسعار تتراجع، وبعد مرور شهر وصلت الأسعار إلى مستوى أقل مما كانت عليه في السابع من تشرين الأول”.

ويضيف: “يعكس ذلك أن أسواق النفط لم تتفاعل مع الحرب وسيناريو تحولها لحرب أوسع.. والأهم من ذلك هو دور منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) في إحداث التوازن بالأسواق والتعامل مع أي ضغوط أو مشكلات في الإنتاج.. وهو ما يقلص من المخاطر اليوم بالنسبة للمستثمر، مع الأخذ بعين الاعتبار ارتفاع إنتاج الولايات المتحدة الأميركية، كأكبر منتج للنفط في العالم”.

وتبعاً لتلك المعطيات لا يعتقد الرفاعي أن هذه المقدمات تقود إلى ارتفاع معدلات التضخم، مردفاً: “خلال فترة كورونا كانت القفزة في معدلات التضخم حول العالم ثم تباطؤها، وكان ذلك التضخم بسبب الارتفاع في أسعار النفط.. الآن يمكن أن تكون هناك ارتفاعات محتملة في معدلات التضخم، ولكنها ستكون بصورة أقل إلا إذا توسعت الحرب.. وهو ما لا تتوقعه الأسواق”.

دروس تاريخية

وبالعودة للدراسة المذكورة، فإن التاريخ يقدم دروساً في كيفية الاستجابة للتضخم المستمر، يلخصها تحليل صندوق النقد الدولي المذكور، بالإشارة إلى أن “البلدان التي شملتها الدراسة والتي نجحت في حل مشكلة التضخم قامت بتشديد سياسات الاقتصاد الكلي بشكل أكبر استجابة لصدمة التضخم… وعلى النقيض من ذلك، فإن البلدان التي لم تحل مشكلة التضخم كانت لديها مواقف سياسية أكثر مرونة وكانت أكثر عرضة للتغيير بين دورة التشديد والتيسير”.

تاريخياً، كانت البلدان التي نجحت في حل مشكلة التضخم تميل إلى تحقيق نمو أقل في الأجور الاسمية. والأهم من ذلك أن هذا لم يترجم إلى انخفاض الأجور الحقيقية وخسارة القوة الشرائية، لأن انخفاض نمو الأجور الاسمية كان مصحوبا بانخفاض نمو الأسعار.

سيناريو السبعينيات

من لندن أيضا، يشير خبير اقتصادات الطاقة، نهاد إسماعيل، في تصريحات خاصة لـ”النهار العربي”، إلى أنه من الصعب التنبؤ بما سيحدث من تطورات جيوسياسية، ولكن  من غير المحتمل أن تلجأ الدول النفطية إلى سلاح المقاطعة وحظر تصدير النفط للدول الغربية. 

ويستطرد: “هذا لن يحدث، لأن الدول التي تصدر النفط ليس لديها استعداد أن تخسر حصصها السوقية، وهناك منتجون كبار خارج أوبك مثل البرازيل والنروج والمكسيك، علاوة على ًروسيا والولايات المتحدة.. الإنتاج العالمي يزيد عن 100 مليون برميل يومياً وإنتاج أعضاء منظمة أوبك بحدود 28 مليون برميل بومياً.. ما يدل إلى أن هناك مصادر بديلة، ولهذا سوف لا يتكرر سيناريو1973”.

لكن في تقدير إسماعيل، فإن “الأسعار قد ترتفع لأسباب تتعلق باتساع رقعة الحرب أو إغلاق باب المندب أو مضيق هرمز وارتفاع وتيرة الاعتداءات على السفن وناقلات النفط والغاز في البحر الأحمر من طرف الحوثيين، وأيضاً صعود تكاليف الشحن والتأمين وربما انقطاع الإمدادات.. كل هذه العوامل قد تدفع الأسعار لمستويات عالية”.

ويشدد خبير اقتصادات الطاقة على أن أسعار الطاقة العالمية تسهم في ارتفاع تكلفة المستهلك والقطاع الصناعي، الأمر الذي يرفع نسب التضخم، ومن هذا المنطلق تجد البنوك المركزية ذاتها مضطرة للتدخل لكبح جماح التضخم عبر الأدوات الهامة والفعالة وهي سلاح تشديد السياسة النقدية من خلال رفع أسعار الفائدة لتقليص الاقتراض والإنفاق، “ورأينا هذه الإجراءات خلال العام 2023 لمكافحة التضخم الناتج من أزمات الطاقة والغذاء؛ بسبب اضطراب سلاسل التوريد أثناء الحرب الروسية الأوكرانية وقبلها أزمة جائحة كورونا.. وتمتلك البنوك المركزية الأدوات والخبرة في معالجة التضخم إذا ارتفعت أسعار النفط إلى مستويات عالية أي إلى 125 أو  140 دولاراً للبرميل”.

ومكافحة التضخم لها تكلفتها، مثل رفع تكلفة الاقتراض وتراجع الاستثمار وأيضاً احتمال الركود وتباطؤ النمو الاقتصادي وارتفاع البطالة، ولذلك تسعى البنوك المركزية لتحقيق ما يسمى بـ”الهبوط السلس” أي هزيمة التضخم دون إحداث ركود اقتصادي، وهذه سياسة الفدرالي الأميركي الذي نجح في خفض نسب التضخم من  حوالي 10 في المئة  في كانون الأول (ديسمبر) 2022 إلى أقل من 3 في المئة في شباط (فبراير) 2024 من دون الانزلاق في ركود اقتصادي.. وبالتالي فإن “النجاح في ترويض التضخم سيقود إلى انتعاش الاقتصاد” بحسب إسماعيل.

التعليقات معطلة.