الاستراتيجية الأميركية الجديدة للأمن القومي والشرق الأوسط

4

بندر الدوشي

في 4 ديسمبر 2025، كشفت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن استراتيجية الأمن القومي لعام 2025، وهي وثيقة من 33 صفحة تُرسّخ مبدأ “أميركا أولاً” ليكون الركيزة الأساسية للسياسة الخارجية. وقد وصفها البيت الأبيض بأنها خارطة طريق لضمان بقاء الولايات المتحدة أعظم وأنجح دولة في التاريخ البشري.

وتنتقد الوثيقة إدارات سابقة بدعوى إهدار الموارد الأميركية في حروب لا تنتهي ومشاريع بناء الدول، خصوصًا في الشرق الأوسط، وتضع بدلاً من ذلك أولويات مثل حماية الحدود، والندية الاقتصادية، وتقاسم الأعباء مع الحلفاء، واعتماد سياسة عسكرية انتقائية تركز على الردع بدل التدخل.
وجاء نشر الوثيقة قبل يوم واحد فقط من إعلان وزارة الدفاع تشكيل قوة المهمات العقربية الضاربة (Task Force Scorpion Strike – TFSS) ونشر طائرات لوكاس المسيّرة في الشرق الأوسط في 5 ديسمبر، وهو تزامن يشير إلى توافق مباشر بين الخطاب الاستراتيجي والتحرك العملياتي على الأرض.

لا أعتقد أن الاستراتيجية تشكل تحولًا جذريًا في سياسة واشنطن تجاه الشرق الأوسط ولا تعني الانسحاب من المنطقة اطلاقًا كما يزعم البعض ، لكن الاستراتيجية تصفه بأنه لم يعد أولوية استراتيجية كبرى لعدة أسباب أبرزها ارتفاع مستوى التوتر مع الصين وانحسار ما تعتبره الوثيقة التصعيدات التقليدية في الملف الإيراني.

وبدل النظر إليه كساحة منافسة بين القوى الكبرى، تقدم الاستراتيجية صورة جديدة للشرق الأوسط باعتباره مكانًا للشراكة والصداقة والاستثمار ومحورًا لفرص اقتصادية في مجالات الذكاء الاصطناعي والطاقة والتجارة، لا مستنقعًا لالتزامات عسكرية واسعة وهذا أمر في اعتقادي تتفق عليه دول المنطقة.

الأهم في الوثيقة أنها تنبذ ما تسميه التجربة الأميركية الخاطئة المتمثلة في توبيخ الدول الخليجية أو فرض إصلاحات عليها، وفي المقابل تضع إيران في أولويات هذا التوجه الجديد، واصفةً إياها بأنها القوة الأكثر زعزعة للاستقرار في المنطقة ومعتبرة أنها أصبحت أضعف بكثير عقب عمليات إسرائيل بعد 7 أكتوبر 2023، والضربة الأميركية لمنشآتها النووية في يونيو 2025.

الاستراتيجة تنص على حماية منطقة الخليج حيث تهدف إلى منع أي قوة معادية من السيطرة على الشرق الأوسط، وموارده من النفط والغاز، والمضائق البحرية دون العودة إلى الحروب التي لا تنتهي، أي ردع الخصوم بشكل مباشر دون خوض صراعات مكلفة. وضمن هذا الإطار، تتضمن الخطة تحويل جزء من القوات الأميركية إلى نصف الكرة الغربي لمواجهة الهجرة والكارتلات، وفق ما تسميه الوثيقة مبدأ ترامب التابع لمبدأ مونرو.
الوثيقة تنص بشكل صريح على تعزيز التعاون مع السعودية والإمارات وإسرائيل في الشرق الأوسط، مع التركيز على الشراكات الاقتصادية وأمن الطاقة والردع ضد التهديدات المشتركة، وعلى رأسها إيران.

وتقدّم الوثيقة المنطقة باعتبارها فضاءً ناشئًا للشراكة والصداقة والاستثمار، مع البناء على اتفاقيات أبراهام لتوسيع روابط التعاون عبر تقاسم الأعباء والصفقات التجارية وجهود مكافحة الإرهاب المشتركة.

وتحت هذا البند نشرت واشنطن لأول مرة مسيرات انتحارية قاتلة تهدف إلى الردع وتوجيه ضربات عسكرية مباشرة دون التورط في حرب طويلة. وتتميز مسيرات لوكاس بأنها نسخة أميركية رخيصة السعر وتبلغ تكلفة الواحدة 35 ألف دولار وتمثل أداة مثالية لتطبيق الاستراتيجية الجديدة في الشرق الأوسط.

التطويرات التقنية في لوكاس الانتحارية مثل التشغيل المستقل الموجه بالأقمار الصناعية وقدرتها على التحليق لمدة 6 ساعات ووصولها إلى مدى 2000 كيلو متر وغيرها من الميزات العالية تمنح الفرصة لتنفيذ عمليات سريعة وواسعة النطاق من دون تعريض القوات الأميركية للخطر، خصوصًا مع خطط تقليص التواجد العسكري. كما يخدم النظام أولويات اقتصادية عبر حماية طرق الطاقة والاستثمار في الخليج وممرات مثل مضيق هرمز، وضمان بقاء المنطقة مصدرًا ووجهة للاستثمار الدولي. ولحلفاء واشنطن، خصوصًا السعودية ودول الخليج وإسرائيل، يعزز نظام لوكاس مفهوم تقاسم الأعباء إذ يمكن نقل التكنولوجيا لتطوير القدرات الذاتية ضد التهديدات المشتركة.

الربط بين نشر مسيرات لوكاس القاتلة والاستراتيجية الجديدة يشير إلى توجّه أميركي أكثر فاعلية وبراغماتية في الشرق الأوسط وهو ردع قصير المدى ضد التهديدات، ويمنح الوقت لإعادة تشكيل البيئة الاقتصادية، بينما تتحول القوات الأميركية إلى ساحات حاسمة مثل حماية الحدود ومواجهة الصين.
ومع ذلك هناك منتقدون لأي استراتيجية عسكرية أمريكية جديدة ،وحذروا من فراغ استراتيجي إذا تم تخفيض عدد القوات بسرعة تفوق تنامي القدرات التقنية، ما قد يفتح المجال لقوى غير دولية أو منافسين مثل روسيا والصين رغم أن الاستراتيجية تشير بوضوح على توفير الحماية لمنطقة الخليج وممرات التجارة ومنع الهيمنة عليها من قبل أي قوى معادية.

وبشكل عام ، إطلاق الاستراتيجية الجديدة مع نشر طائرات لوكاس يشكل وعد النهج الأمريكي الجديد في المنطقة الذي بدأ باستهداف برنامج إيران النووي دون الخوض في حرب مدمرة ، وهو جيش أميركي أرشق وأكثر كفاءة، ويفرض الردع بتكلفة منخفضة، ويُفضّل الفعل على التحذيرات، وقوة الردع على الاحتلال طويل المدى.

التعليقات معطلة.