الاستسلام لا يحتاج إلى وساطة دوليّة!

1

 المصدر : النهار العربي

فارس خشان

فارس خشان

جلسة حوار في بعبدا.(أرشيف)

كثيرة هي المفاهيم الراقية التي تحوّلت في لبنان إلى سلعة سياسيّة، بعدما جرى تشويهها، ومن بين هذه المفاهيم يمكن إدراج “الحوار” في رأس القائمة، إذ إنّه، بالمبدأ، أنبل السبل الآيلة إلى إيجاد حلول للمشكلات والأزمات والاختلافات!
ومنطق الحوار دخل إلى لبنان بعد انسحاب سوريا عسكريًّا ومخابراتيًّا منه في عام 2005، وكان يهدف إلى تمكين القوى اللبنانية المختلفة من التوصّل إلى تفاهمات يمكن التأسيس عليها لبناء لبنان المتحرّر من الوصاية السوريّة التي كانت تفرض إرادتها، في سلوك احتلالي واضح، بالقوة والقهر والترهيب.
حينها تفاءل اللبنانيّون بمستقبلهم، وهم يرون، على سبيل المثال لا الحصر، الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصر الله يمازح رئيس “القوات اللبنانية” سمير جعجع ورئيس “التيار الوطني الحر” ميشال عون يهمس في أذني رئيس “تيّار المستقبل” سعد الحريري ورئيس “الحزب التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط يُنسّق مع رئيس “حركة أمل” نبيه برّي!
وتعاظمت بهجة اللبنانيّين إلى أقصاها وهم يسمعون اتفاق الفرقاء على خريطة طريق تهدف إلى معالجة سريعة لمشكلات قديمة مثل: السلاح الفلسطيني والقواعد العسكريّة، وثغرات الحدود اللبنانية – السوريّة وصولًا إلى حسم هوية مزارع شبعا، واحترام المقررات الدولية، ودعم التحقيق الدولي في ملف اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وغير ذلك الكثير من الملفات الشائكة.
ولكن سرعان ما محا “حزب الله” كلام الحوار، فذهب، على الرغم من التحذيرات والتعهّدات، إلى التسبّب بحرب تدميريّة مع إسرائيل انتهت بإعلان انتصاره على سائر اللبنانيّين الذين جرى تخوينهم ومخاصمتهم ومواجهتهم، ما مهّد إلى غزوة عسكرية قام بها في الداخل انتهت في الدوحة حيث جرى توقيع تفاهيم بين “حزب الله” من جهة، وضحاياه من جهة أخرى.
ولم يكن ثمّة ما هو أسوأ من “تفاهم الدوحة” الناجم عمّا سُمي بمؤتمر حوار وطني لعب فيه البترودولار دورًا كبيرًا، لأنّه عمليًا أوجد في لبنان “نظام الفيتوات” وعزّز منطق الصفقات، بحيث بات يستحيل اتخاذ قرار لا يراعي مصالح الأطراف التي لا بدّ من موافقتها عليه!
ولعلّ النموذج الأسوأ الصالح لتقييم المفهوم الحقيقي للحوار في لبنان يتمثّل في مصير “إعلان بعبدا” الذي انتهت إليه طاولة الحوار التي عقدها الرئيس السابق للجمهورية ميشال سليمان، إذ ما إن صدر هذا الإعلان الذي كان يهدف إلى تحييد لبنان عن حروب الإقليم وصراع محاوره، حتى بادر “حزب الله”، بمجرّد تلقيه التكليف الشرعي، بالتوجه إلى سوريا لدعم النظام السوري ضد القوى الثائرة ضدّه، إلى الانقلاب عليه والتبرؤ منه والتنديد به!
هذا الحوار نفسه هو محور تنازع في لبنان، منذ سنة كاملة، أي منذ دخل الاستحقاق الرئاسي في مهلته الدستوريّة، إذ طرحه “الثنائي الشيعي” كشرط لإنجاز هذا الاستحقاق في ظل افتقاد أي جهة للأكثرية الناخبة، ورفضته القوى الأخرى بصفته المدخل الأكيد لتكريس مسار احتقار الدستور وفرض إرادة “السلاح غير الشرعي” على البلاد والعباد.
وقدّم “الثنائي الشيعي” كل ما يلزم من أدلّة على صحّة تقييم خصومه للحوار الرئاسي، إذ إنّ هذا الثنائي رشّح رئيس “تيار المردة” سليمان فرنجية لرئاسة الجمهوريّة، وشاء أن يتمحور الحوار المنشود حول شخصه كـ”ضامن” لما سوف يتم التوصل إليه من تفاهمات.
ودخلت باريس على خط دعم ترشيح فرنجية من “الثنائي الشيعي”، ولكنّها جوبهت هي الأخرى بمعارضة قوية، إذ إنّ الجميع يدركون أنّ فرنجية، بكل ما يختص بما يريده “حزب الله” والنظام السوري، يُنفّذ حتى من دون أدنى مناقشة.
ولا يبدو أنّ باريس قد تخلّت، حتى تاريخه، عن دعم التوجهات التي يقترحها “الثنائي الشيعي”، بدليل أنّ تغيير الجهة التي تتولّى حلحلة الانسداد الرئاسي قد غيّر في المنهجية، فجان- إيف لودريان “حار ودار” وعاد إلى فكرة الحوار، من دون أن يعلن “الثنائي الشيعي” أنّه مستعد للتراجع عن خيار سليمان فرنجيّة والذهاب إلى خيار آخر يطرحه على القوى الرافضة له.
وبذلك تغيّر مفهوم الحوار في لبنان، فهو لم يعد يهدف إلى إيجاد حلول للمشكلات وابتداع مخارج للأزمات، بل أصبح وسيلة لتغطية إخضاع القوى التي ترفض إملاءات “الثنائي الشيعي” والتوجهات التي يريد أن يسير اللبنانيّون بموجبها!
وهذا يعني أنّ الدعوة إلى الحوار باتت طرحًا خطرًا، إذ يراد منها مشروع غلبة بإذعان المغلوبين، بحيث يعيد المعادلة التدميريّة التي كان قد أرساها “تفاهم الدوحة” إلى الوجود.
وقبول الحوار، بهذه الخلفيّة، يعني أنّ على اللبنانيّين أن يرضخوا لـ”7 أيّار” سياسيّة، تمامًا كما سبق أن خضعوا لـ”7 أيّار” العسكريّة!
وعليه، ترفض قوى سياسيّة وازنة في البلاد الدعوة إلى هذا النوع من الحوار!
يستطيع الوسيط الفرنسي إن اجتهد أن يجد حلًّا لهذا المأزق، من خلال إعادة مفهوم الحوار الحقيقي إلى لبنان، بحيث يقدّم تعهدات بأنّ سليمان فرنجية، بعدما أصبح مرشّح تحدّ لن يكون مطروحًا على الطاولة، وبأنّ فرنسا لن تكون، بصفتها عضوًا دائمًا في مجلس الأمن الدولي، غطاءً ليتجاوز لبنان، من خلال الحوار، القرارات الدولية المطلوب تنفيذها، ومن بينها القرار 1559، وبأنّ التسوية المنشودة من الحوار لن يتم تحريفها لتصبح غطاءً لتعويم منطق الصفقات الذي دمّر الدولة وماليتها واقتصادها.
هل يمكن للوسيط الفرنسي أن يقدّم هذه الضمانات؟
ثمّة  من يستصعب ذلك، ولكن ما قيمة التدخل الخارجي إن كان يهدف إلى تكريس منطق الغلبة، فالاستسلام لا يحتاج إلى وسطاء!

التعليقات معطلة.