الاستفتاء لم يقضِ على المشروع الكردي

1

الكاتب:خيرالله خيرالله

سيمكث يوم الخامس والعشرين من سبتمبر 2017 في الذاكرة الكردية طويلا. كان ذلك اليوم الذي اصرّ فيه مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان في حينه، على اجراء استفتاء على الاستقلال في المناطق الكردية العراقية، بما في ذلك كركوك المتنازع عليها.
امتلك بارزاني ما يكفي من الجرأة لتقديم استقالته بعد ايّام من الاستفتاء، على الرغم من انّ الأكثرية الساحقة من الاكراد المقيمين في الاقليم ايّدوا الاستقلال. هل ارتكب مسعود بارزاني غلطة العمر، ام وضع اللبنة الاولى للاستقلال الكردي الذي يبقى انّ لا بديل منه في ظلّ العجز الواضح عن قيام دولة مدنية في العراق وبناء مؤسسات حقيقية لمثل هذه الدولة؟
اضطر مسعود بارزاني الى الاستقالة لاسباب عدّة في مقدّمها اكتشافه اوّلا ان لا مجال للاتكال على الموقف الاميركي. الحقيقة ان الاميركيين دعموا اكراد العراق الى ابعد حدود، لكنّهم طالبوا مسعود بارزاني عشية الاستفتاء بالتراجع عن اجرائه. لم يكذب الاميركيون على القيادة الكردية، لكنّ الواضح ان هناك إشارات متناقضة، صدرت عن واشنطن وبلغت أربيل في مرحلة ما قبل الاستفتاء. لم يحسن رئيس إقليم كردستان التفريق بين من كان يمتلك القرار الاميركي في تلك الايّام وبين من لا يمتلكه.
يأتي بعد ذلك الحصار الخانق الذي تعرّض له إقليم كردستان مباشرة بعد الاستفتاء. الأكيد ان بارزاني تفاجأ بمدى التنسيق التركي – الايراني، وهو تنسيق جعل الحكومة المركزية في بغداد تتعاطى مع الاكراد من موقع قوّة. الاهمّ من ذلك كلّه ان الاكراد فوجئوا بعملية طردهم من كركوك بواسطة قوات مدعومة إيرانيا قادها قاسم سليماني قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري».
قام مسعود بارزاني بحسابات خاطئة. اقلّ ما يمكن قوله انّ الاستفتاء جعل القضيّة الكردية، وهي قضيّة محقّة، تتراجع سنوات طويلة. من بين الحسابات الخاطئة التي قام بها استخفافه بالجانب الكردي الآخر المتمثل في قادة حزب جلال طالباني (الاتحاد الوطني الكردستاني). اختار طالباني، الذي شغل موقع رئيس الجمهورية العراقية الى حين اصابته بجلطة في الرأس، ان يغادر هذه الدنيا بعد تسعة ايّام من فشل تجربة الاستفتاء. كان ذلك في الرابع من أكتوبر. لكن رحيل طالباني لم يثن أنصاره عن الذهاب بعيدا في معارضة كلّ ما يقوم به مسعود بارزاني لاسباب خاصة بهم.
كان الاستفتاء وفشله من اهمّ الاحداث التي شهدها العام 2017، لا لشيء سوى لانّه كشف أمورا كثيرة. في مقدّم ما كشفه عمق التنسيق التركي- الايراني، إضافة الى مدى النفوذ الايراني في بغداد.
ليس في استطاعة الاكراد اللعب على ايّ تناقضات إقليمية او دولية هذه الايّام او الاستفادة منها. اكثر من ذلك، هناك انقسامات داخلية كردية عميقة عبّر عنها مسعود بارزاني نفسه عندما تحدّث عن «خيانات» في كركوك مكّنت الايرانيين من طرد قوات البيشمركة من المدينة المتنازع عليها. لا يزال السؤال الذي يطرح نفسه الآن لماذا كان كلّ هذا الإصرار لدى مسعود بارزاني على ان يشمل الاستفتاء مدينة مثل كركوك ليس ما يضمن كرديتها في المدى الطويل، خصوصا ان قسما لا بأس به من سكانها من التركمان؟
في كلّ الاحوال، زادت المشاكل الكردية وتعقّدت اكثر بعد الاستفتاء. تبيّن لاكراد العراق انّهم غير موحدين اوّلا وان هناك رغبة اقليمية قويّة في عزلهم سياسيا وفرض حصار اقتصادي عليهم. تبيّن خصوصا انّ الجغرافيا ما زال تلعب دورها ضدّهم وضدّ تحقيق حلمهم. اكثر من ذلك، تبيّن ان الدعم الإسرائيلي لهم يبقى دعما محدودا لا تأثير يذكر له وان الاميركيين غير مستعدين لاغضاب انقرة وطهران وبغداد من اجلّهم.
هل بات في الإمكان، بعد فشل الاستفتاء، الحديث عن دفن مشروع الدولة الكردية المستقلة في العراق، وهي دولة يمكن ان تكون جاذبة لاكراد تركيا وايران وسوريا؟ كان ملفتا ان اكراد ايران لم يترددوا في الاحتفال بنتيجة الاستفتاء الذي جرى في كردستان العراق وذلك على الرغم من كل القمع الذي يتعرضون له. لم يخفوا فرحتهم بان تقوم يوما دولة كردية مستقلّة في العراق تشكل نواة لما هو اكبر من ذلك في المنطقة.
ما يدفع الى التكهن بان الحلم الكردي ما زال حيّا يرزق هو الوضع العراقي. هناك على ارض العراق انتصار للدولة الدينية على الدولة المدنية. في ظلّ الدولة الدينية، التي تعكس الهيمنة الايرانية على العراق لا يمكن لايّ اقلّية ان تستكين، اللهمّ الّا اذا كان على هذه الاقلّية القبول بالعيش على هامش الحياة السياسية والاقتصادية للبلد.
من يتمعّن في ما يجري في العراق حاليا، خصوصا في ظلّ إدارة أميركية لم تثبت انها مختلفة عن تلك التي سبقتها، يجد امامه بلدا يتحوّل سريعا نحو العيش في ظلّ «الحشد الشعبي». هناك استعادة لتجربة «الحرس الثوري» الايرانية في العراق مع فارق واحد. يعود هذا الفارق الى ان «الحشد الشعبي» ليس سوى مجموعة الوية تابعة لـ«الحرس الثوري» الايراني. قرّر «الحرس الثوري» مثلا ارسال قائد احد تلك الالوية (عصائب اهل الحق) قيس الخزعلي لتفقد جنوب لبنان، فكان ان زار الخزعلي الجنوب وتحدث عن “إقامة دولة صاحب الزمان«متحدّيا مشاعر اللبنانيين، بما في ذلك اهل الجنوب الذين ينعمون بفترة طويلة من الهدوء بفضل وجود القوات الدولية التي تطبّق القرار 1701 الصادر عن مجلس الامن في صيف العام 2006».
يتجه العراق نحو قيام دولة دينية فيه. لم تتبلور حتّى الآن أي مقاومة في العمق داخل المجتمع الشيعي العراقي لهذا التوجّه وذلك على الرغم من التحركات التي يقوم بها مقتدى الصدر او عمّار الحكيم بين حين وآخر.
في العام 2017، تراجع المشروع الكردي لكنه لم يمت. لن يموت هذا المشروع ما دام لا وجود لمشروع يستهدف إقامة دولة مدنية في العراق. اتُفق على قيام مثل هذه الدولة بين الأحزاب العراقية، خصوصا بين الاحزاب الشيعية والاكراد، في مرحلة الاعداد للاجتياح الاميركي الذي قضى على نظام صدّام حسين في العام 2003. وجد الاكراد نفسهم بعد فترة قصيرة من سقوط صدّام خارج المعادلة العراقية الجديدة التي دخلوها ضمن مشروط معيّنة.
المسألة مسألة وقت فقط تبعث بعدها الحياة مجددا في المشروع الكردي، لا لشيء سوى لانّ مشروع الدولة الدينية في العراق ليس مشروعا قابلا للحياة وان مشروع الدولة المدنية يبدو اكثر فاكثر مشروعا مستحيلا في ظلّ«الحشد الشعبي». يمهّد مشروع الدولة الدينية الذي يبنى في العراق على النسق الايراني لحروب جديدة على ارض العراق ولظهور«داعش» او ما شابهه مجددا. لن يقضي على المشروع الكردي سوى نجاح المشروع الذي خططت له الإدارة الاميركية قبل اجتياح العراق. ظهر مع الوقت ان هذا المشروع لم يمتلك ايّ مقومات باستثناء انّه امّن انتصارا إيرانيا على العراق. أي مصلحة في نهاية المطاف للاكراد في العيش في ظلّ الهيمنة الايرانية؟

التعليقات معطلة.