بقلم : د. عصام نعمان
كل أطراف الأزمة السورية يشاركون في مفاوضات جنيف8-. بعضهم يشارك مباشرةً، وبعضهم الآخر مداورةً. الحكومة السورية من جهة والمعارضة السياسية لها من جهة أخرى يتفاوضان مباشرةً، لكن بالواسطة. الواسطة هي المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا. أميركا وروسيا وتركيا وإيران والسعودية يتفاوضون مباشرةً حيناً ومداورةً حيناً آخر عبر المبعوث الأممي إياه.
المفاوضات متعثرة، رغم بلوغها جولتها الثامنة، وقد تصل في تعثرها الى الجولة الثمانين ما لم يتفق أطرافها جميعاً على ولوجها من مدخلها الصحيح والرئيس: الاعتراف بوحدة سورية وسيادتها على كامل ترابها الوطني والتسليم بوجود بشار الأسد في رئاستها. ذلك أن طرفيـن فقط، روسيا وايران، من بين الاطراف الستة المعنية بالمفاوضات يعترفان فعلياً بوحدة سورية وبالأسد. لماذا الآخرون لا يعترفون؟
المعارضة السورية لا تعترف بوحدة سورية، أي بحكومتها المركزية في دمشق، لأن الاعتراف بذلك يعني الاعتراف برئيسها بشار الأسد. بعض أطراف المعارضة، ومن ورائهم السعودية، لا يريدون الاعتراف بالأسد لأنّ الاعتراف به يعني خسارة «مشروعية» الحرب ضده وضد نظامه. لذا صدر عن منصة الرياض المعارِضة، عشية جنيف، بيان استفزازي ضد الأسد لعرقلة المفاوضات.
تركيا لا تريد الاعتراف، في هذه المرحلة على الاقلّ، بالأسد لسببين: خلاف شخصي وسياسي بين رجب الطيب اردوغان والرئيس السوري، ومطامع تركيا في أراضٍ سورية لها صلة بسعي أنقرة إلى إبعاد اي سيطرة للكرد السوريين عن حدودها.
أميركا لا تريد الاعتراف بالأسد، لأنها ما زالت مشاركة وناشطة في تحقيق مخططٍ قديم جديد مع «اسرائيل» يرمي الى تفكيك سورية الى جمهوريات موزٍ تقوم على أساس قَبَلي او مذهبي او اثني.
السعودية وأميركا وتركيا ترجمت عدم اعترافها بوحدة سورية بتدابير ووسائل عدّة ليس أقلها تزويد التنظيمات المسلحة المعادية لها بالمال والسلاح والعتاد والغذاء. كما سمحت تركيا بنقل الاسلحة والمقاتلين عبر حدودها الى التنظيمات التي تقاتل الجيش السوري. أكثر من ذلك، تضغط أميركا على سورية وتركيا للقبول بإشتراك ممثلي الكرد السوريين في مفاوضات جنيف بوفد مستقل عن سائر أطراف المعارضة السورية. كما تعارض واشنطن في تعديل نظام نقل المساعدات الإنسانية الأممية الى الداخل السوري عبر الاردن، في حين تحاول روسيا تعديله في مجلس الامن الدولي كي يضمن مشاركة الحكومة السورية في إجراءاته لكونها صاحبة السيادة على الارض.
روسيا وإيران تحترمان سيادة سورية وتدعوان دائماً الى احترامها وتقولان إن أي وجود عسكري لهما في أراضيها إنما جرى ويجري بعلمها وموافقتها. لذلك تعمل روسيا لضمان مشاركة سورية في نظام توزيع المساعدات الإنسانية الأممية عبر الحدود مع الأردن، وقد تقدمت باقتراح عملي لمجلس الأمن في هذا الخصوص.
أين سورية من كل هذا الذي يجري داخل أراضيها وعلى حدودها وفي أروقة قصر الأمم في جنيف وقاعة مجلس الأمن في نيويورك؟
سورية أعلنت دائماً تمسكها بتحرير جميع مناطقها التي وقعت تحت سيطرة التنظيمات الإرهابية او تسللت اليها قوات أجنبية واستقرّت فيها من دون موافقتها. لذلك تستمر حرب سورية وحلفائها على ما تبقّى من مقاتلي «داعش» و»النصرة» في محافظتي درعا والقنيطرة الجنوبيتين، كما في محيط دمشق والغوطة الشرقية. وهي تتحفّظ على وجود وحدات أميركية في منطقة التنف على الحدود بينها وبين العراق، كما في محافظتي الرقة والحسكة في الشمال الشرقي، وتتحفّظ أيضاً على وجود قوات تركية في شمال محافظة ادلب، وهي تأمل بانسحاب كل هذه القوات الاجنبية بعد الإعلان رسمياً عن دحر «داعش» و»النصرة» وطردهما من كل الاراضي السورية.
ماذا لو بقيت قوات أجنبية في سورية بعد إعلان الانتصار رسمياً على التنظيمات الإرهابية؟
سورية تمسّكت دائماً بمبدأ جلاء جميع القوات الاجنبية عن اراضيها، لكنها لم تعلن بعد ما تنوي فعله اذا ما تلكّأت هذه القوات في الانسحاب. غير أن خبراء عسكريين مقّربين من الحكومة في دمشق أكدوا انها وحلفاءها لن يتوانوا عن الضغط، سياسياً وعسكرياً، على الدول التي تنشر قوات في أراضيها من دون موافقتها لحملها على سحبها من دون شروط.
في هذا السياق، يبدو واضحاً أن التكتيك الذي يعتمده الوفد السوري الرسمي، برئاسة بشار الجعفري، في مفاوضات جنيف 8 والمتمثل في التحفظ على تسريع وتيرة المفاوضات، إنما يعكس سياسة دمشق الرامية الى كسب الوقت اللازم الذي يحتاجه الجيش السوري وحلفاؤه من أجل تحرير ما تبقّى، ولو تدريجياً، من المناطق السورية التي ما زالت تحت سيطرة جهات متمردة على الحكومة السورية او موجودة من دون موافقتها على أجزاء من ترابها الوطني.
إذ تكافح دمشق على الأرض وفي الأروقة الديبلوماسية لاستعادة سيطرتها وسيادتها على كامل ترابها الوطني، تلقى دعماً سياسياً وعسكرياً من موسكو وطهران لتحقيق هدفها الاستراتيجي. ويبدو أن لا سبيل الى إنجاح المفاوضات والتوصّل الى حلّ سياسي للأزمة السورية المتطاولة إلا بإقرار الأطراف المعنيين، كبارهم وصغارهم، بأن التسليم ببقاء الأسد والاعتراف بوحدة سورية وسيادتها على كامل ترابها الوطني هو المدخل الصحيح والشرط الرئيس لإنجاح المفاوضات وصوغ الحل السياسي المتوازن والمنشود.