حامد الكيلاني
صيغة الغائب لشخص حاضر، تنطبق هذه العبارة تماما على واقع الشعب العراقي وتتلبس حاضر السياسة العراقية. النظام الديمقراطي ما بعد الاحتلال صنع من العراقيين خيال مأتة أو فزاعة حقل لطرد أو تأخير الحساب مع أحزاب شرهة استولت على قوته ومصادر خيراته وأوغلت في تخلفه وتراجعه إنسانيا وثقافيا واقتصاديا وعمرانيا.
وبمثل هذا الوصف، انتقلت بغداد إلى ذيل قائمة معايير المنظمات الدولية للبلدان كأسوأ مدينة للعيش في العالم. مدينة عشوائية، غير مستقرة أمنيا، وبيئة خصبة لاستشراء الفساد وبؤرة لإرهاب متعدد تنكشف كل يوم غاياته وما يختفي وراءه من أنشطة لعصابات خارجة عن القانون، وهي ميليشيات ومافيات مدعومة من جهات سياسية وزعماء أحزاب وقوى غير مشمولة حتى بسلطة الدولة ويعجز رئيس الوزراء بصفته القائد العام للقوات المسلحة عن التحقيق معها أو مساءلتها أو إلقاء القبض عليها.
فوضى تعصف بالعراق منذ الاحتلال الأميركي في أبريل 2003 وعلى مدى زمن مفتوح توالت فيه الحكومات والدورات البرلمانية المنتخبة بنظام ديمقراطي تجريبي متوقع أن يستمر مع حالة التدهور الإجتماعي وغياب العدالة وتعميم نظام المحاصصة في الحكم، حتى في المعالجات المزعومة والمطروحة بمشاريع الأحزاب الدينية وبعملية تغليف أو تعليب منتجاتها بالكتلة السياسية الأكبر، كما في طروحات نوري المالكي لأربع سنوات قادمة كسياسي غير طائفي يرفض الأخطاء السابقة منذ الاحتلال ولا يرتضي إلا بالدولة المدنية لإنقاذ العراق من ورطة المحاصصة الطائفية والقومية. نموذج نوري المالكي يتصدّر المشهد الانتخابي القادم.
شعب من النازحين في المخيّمات ينتظرون العودة إلى مدنهم ومناطقهم السكنية المدمرة. البعض من المدن نسبة الدمار فيها 80 بالمئة وهي بحاجة إلى عمليات احترافية في إزالة الألغام والعبوات الناسفة ورفع الأنقاض ومعها جثث الأبرياء من المدنيين وفتح الشوارع والأزقة وإعادة الخدمات الأساسية من ماء وكهرباء وصيانة البنى التحتية، مع إقرار التعويضات اللازمة ومتطلبات الدعم الدولي وتخصيصات تعتمد على ميزانية ريعية ليس فيها إلا النفط.
الانتخابات البرلمانية في مايو 2018 عملية احتيال سياسي للأحزاب الدينية والطائفية الحاكمة، ومعها الشلل المنتفعة من مختلف الانتمائات المذهبية لإقناع البسطاء بأنهم قادة التغيير وثوّار المرحلة القادمة بعد القضاء على داعش وفشل نظام المحاصصة في استيعاب الحاضر الغائب، ونعني به شعب العراق المغيّب في دوامة تجهيله وتخدير وعيه وتشتيت رؤيته عن حقوقه تحت ظل دولة تحترم مواطنيها وترعى مصالحهم وتسهر على أمنهم.
العراقيون كما يقول المثل العراقي “بين حانة ومانة” ومن يتناقل السلطة منذ الاحتلال هم قادة حزب الدعوة المخلص للمشروع الإيراني في العراق وصادراته أيضا إلى العرب والعالم.
وجد المالكي في تبعات الاستفتاء الكردي متنفسا ليلقي بلائمة سقوط الموصل المُهين للقوات النظامية على إقليم كردستان، مستغلا فرصة التفاهمات بين النظام الإيراني وحزب الاتحاد الوطني وتحديدا عائلة الطالباني للنفاذ بين جماهير الحزبين الكرديين الرئيسيين وسط حالة من الاحتقان في الإقليم بعد تنحّي مسعود البارزاني عن رئاسته. الأيام كفيلة بتكملة طبخة الأحزاب الطائفية وميليشياتها في المدن الكردية.
الإرهاب والعمليات الانتحارية والتفجيرات لا يرتبط تاريخها بدخول داعش من الحدود السورية واستيلائها على الموصل في يونيو 2014، فالحدود الخارجية لم تكن مؤمّنة منذ الاحتلال. ما يراد إقناعنا به هو أن مشكلة العراق تكمن في حرب الحدود لضمان الأمن “القومي” بمعنى أن داعش أوقف عجلة الأمن الداخلي وأعاق الانصراف إلى التنمية الشاملة.
منذ الاحتلال وإرهاب دولة المحاصصة والطوائف يمارس انتقامه بالمجتمع العراقي ابتداء باغتيال كل من ساهم في حرب الثماني سنوات مع إيران من طيارين أو ضباط لامعين أو خبرات عسكرية متفرقة، ثم التصفيات الجسدية للعقول بتداعياتها وما ألقته بآثارها على الأجيال الجديدة التي أنتجتها فتـرة الحصار وتبعتها فتـرة الخراب والإقصاء والإبادات الممنهجة بعد الاحتلال.
حيدر العبادي عندما واجه ازدحاما في تظاهرات تطالب بالإصلاح، فشل رغم التفويض الشعبي له بعد ارتباك سياسي حاد وسحب الثقة من بعض الوزراء صعودا إلى مهازل البرلمان؛ لم يستطع العبادي أن يتخذ أي قرار إيجابي بل حمل الشحن الجماهيري ليفرغه في ساحة الحرب العالمية على الإرهاب التي استعجل بها الرئيس الأميركي باراك أوباما في نهاية فترته الرئاسية كدعاية انتخابية لمرشحة حزبه الديمقراطي هيلاري كلينتون.
العبادي زجّ بالقوات النظامية والحشد الطائفي ومعظم القطعات المسلحة في أتون حرب تساوى فيها داعش مع المواطن بالنتيجة بخلطة غريبة خلاصتها أكثر من مليون نازح جديد والآلاف من القتلى في حرب لم تكن احترافية تصيّد فيها العبادي المفاضلة بين سيء وأسوأ وكانت له الغلبة قياسا إلى زعيم حزبه نوري المالكي.
الوقائع تؤكد لنا أن سباقا يجري خارج المنافسة السياسية والمكاسب الانتخابية للسيطرة على القوات المسلحة من قوات نظامية أو ميليشياوية، جيش وشرطة اتحادية ومكافحة إرهاب أو حرس ثوري بتسمية الحشد الشعبي.
حرب الحدود الخارجية للعراق مع سوريا تحديدا لن تنتهي باندحار داعش، هي حرب محاور دولية وصراع نفوذ تتقاسمه أميركا وروسيا وإيران وتركيا ومن الداخل العراقي تتنافس عليه قوى نظامية تابعة للدولة وقوة إيرانية صرفة في واجباتها وعقيدتها تختبئ في عناوين مذهبية بمظلة الحكومة والقوات المسلحة وبحماية قانون برلماني لا تعلو عليه سوى إرادة المرجعيات الطائفية ووصايا المرشد الخامنئي.
الهروب إلى مهنة الحروب أقصر الطرق للخلاص من متطلبات الشعب الرئيسية في إعادة الوئام المجتمعي وبناء الثقة بين المكوّنات التي سُحقت تحت عجلة المشاريع، وفي مقدمتها مشروع تبادل المهمات الطائفية وتخادمها سياسيا بين قادة حزب الدعوة وكتلة التحالف “الوطني” وصراع فرض الإرادات وملاحقة موضة التواصل السياسي على شكل انقسامات تمهد لفرص انتخابية أكبر، رغم أن لكل واحد منهم كتلة بشرية تتبعه دون برنامج أو رؤية وطنية أو مستقبلية، لكنهم يأملون في الأصوات العشوائية التي تحذفها رياح قبلية وعشائرية ومزاجات تتعكز على حرث رماد الطائفية أو إثارة عواطف ما قبل أيام من الانتخابات التي ما إن تنتهي حتى تعود الكتل الفائزة إلى التآلف بكتلة طائفية كبيرة تحت قبة البرلمان.
حرب الحدود تدحضها حرب فاشلة للأمن الداخلي على مدة سنوات الاحتلال أدت إلى خسارة وطن بحجم العراق بتراثه وقيمه وإنسانيته ودوره الحضاري بين دول المنطقة والعالم. مقارنة تبعث على الحزن عند النظر إلى حال العراق في الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي وحاضرنا، مقارنة جائرة بين طموح النهوض بالحريات الخاصة والعامة وبين هذا التهافت على مخلفات ولاية الفقيه.
أكثر من 4000 مختطف في الصقلاوية والعامرية والفلوجة والطارمية وعزيز بلد وجرف الصخر، تعجز دولة حزب الدعوة عن كشف مصائرهم بينما تتفاوض وتلتقي مع الخاطفين لتطلق سراح 3 من اللبنانيين أو عددا من الصيادين القطريين أو عددا من الناشطين الشباب. كيف يثق النـاخب العراقي بأحزاب وقيادات تتفاوض مع خاطفين؟ من هم هؤلاء؟ لماذا ترضخ لهم حكومة العبادي؟
الانتخابات العراقية تلبّي مصالح كل أحزاب العملية السياسية التي غيّبت الشعب العراقي الحاضر عن مستلزمات إنسانيته، فمن يؤيد إجراؤها في توقيتها يضمن التلاعب بنتائجها لغياب أصوات النازحين ومن يرغب بتأجيلها من السياسيين بحجة اللاجئين يترك مجالا لمزيد من سرقات الدعم الأممي لمحنة كرام أهلنا.
ماذا في جعبة حيدر العبادي من تصريحه بإبعاد الأحزاب ذات الأجنحة العسكرية من الانتخابات؟ على هذا المنوال لا أحزاب ستشارك في الانتخابات القادمة إلا إذا كانت مقاصده لا تشمل الميليشيات الإيـرانية وأحزابها ومعها ربما أحزاب شابة تتدرب في مجالسهم. هل نتوقع اشتباكا ما بين قوات نظامية وأخرى ميليشياوية لمبررات سياسية وليست طائفية وبتحريض من النظام الإيراني أو خروجا ربما على طاعته أو لإرادة دولية صادمة؛ لِمّ لا.