الانتخابات العراقية وعقاب الجمهور التشريني

1

آراء
هل عاقب “الجمهور التشريني” مرشّحيه في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، كما ردّد البعض على مواقع التواصل أو في اللقاءات التلفزيونية خلال الأسبوع الماضي؟.
يكون الكلام، في الواقع، أكثر دقّة، حين نقول: إنّ جزءاً من الجمهور التشريني الذي انتخب بعض المرشّحين في انتخابات 2021 هو من عاقبهم في الانتخابات الجديدة، إمّا لأنهم قفزوا من المركب التشريني ونزلوا مع أحزاب إسلامية ومليشياوية (الضدّ النوعي لتشرين)، أو لأن أداءهم خلال السنوات الأربع الماضية لم يكن بالمستوى المطلوب، فانشغل النوّاب التشرينيون بأنفسهم وانقطعوا عن قواعدهم الشعبية، ولم يتذكّروهم إلا قبل بضعة أشهر من موعد الانتخابات.
أمّا الجمهور الأوسع من التشرينيين فهو إمّا محبط ويائس، أو لديه موقف سلبي من الانتخابات بشروطها التي رسمتها أحزاب السلطة الكبرى، سواء في انتخابات 2021 أو الانتخابات الأخيرة. وعبّر هؤلاء عن مواقفهم المعلنة بمقاطعة الانتخابات من أساسها، بوصفها لعبة مغلقة لا تتيح فرصة حقيقية للتغيير، خصوصاً بعد تجربة أربع سنوات لم تُفضِ إلى نتائج ملموسة.
بعض النوّاب التشرينيين في الدورة البرلمانية المنتهية أدركوا المسافة التي صارت تتّسع بينهم وجمهورهم، أو أنهم شعروا بأنهم لم يقدّموا شيئاً يُذكر، لذا فضّلوا الانسحاب من السباق الانتخابي وعدم الترشّح مرّة ثانية، مثل النائب علاء الركابي. وهؤلاء ربما كانوا أكثر واقعية وإدراكاً للمتغيرات من زملائهم الذين تلقّوا صدمة كبيرة بخسارة قاسية غير متوقّعة.
وأدرك بعض النوّاب، بوقت متأخر، أن الفجوة كانت كبيرة بينهم وجمهورهم الذي صوّت لهم سابقاً؛ لذلك لجأوا إلى تجربة حظّهم مع قوائم كبيرة، أملاً بأن تُفيض عليهم أصواتها، كما فعل بعض النوّاب الذين نزلوا مع قائمة “دولة القانون”. أي إنهم “هاجروا” من جمهورهم الذي يعرفهم إلى جمهور آخر لا يثق بهم، وصاروا مثل حكاية الغراب الذي أراد تقليد مشية الطاووس، ثم بعد مدّة أدرك أنه لم يكن طاووساً، ونسي مشيته الأصلية. أو بالتعبير العراقي الدقيق: “ضيّع المشيتين”.
كما أنّ جزءاً من الجمهور لم يتقبّل التحالفات التي أجراها بعض السياسيين المحسوبين على تشرين مع سياسيين مخضرمين في العملية السياسية ولديهم ملفات فساد، ولم يفهموا لماذا تضمّ قوائم انتخابية مدنية أو تشرينية خليطاً متنوّعاً من اتجاهات متعدّدة، فأين البرنامج والهوية السياسية الواضحة؟ وكيف يمكن لجمهور يبحث عن التغيير أن يصوّت لمن يختلط، في قائمة واحدة، مع رموز كانت حتى الأمس القريب جزءاً من المشكلة؟.
تعمّقت أزمة الثقة حين شعر جمهور تشرين بأنّ بعض ممثليه السابقين أعادوا في سلوكهم إنتاج نموذج السياسي التقليدي نفسه: خطاب كبير ووعود كثيرة، ثم غياب طويل، ثم عودة متأخّرة عند اقتراب الانتخابات. وبذلك بدا التشريني السابق، الذي كان يهتف ضدّ الفساد والمحاصصة، وكأنه يستعير أدوات السياسي القديم، من دون أن يقدّم مشروعاً جديداً أو رؤية مختلفة.
أيضاً لم يكن التيار المدني بقدرة مالية كبيرة تواجه الإنفاق المهول لدى الأحزاب الكبرى المعروفة، ولم تكن لديه مكاتب حقيقية، ولا إعلام قويّ مثل الذي عند خصومه. ومنح القانون الانتخابي أفضلية للأحزاب الكبيرة، وساهم في تشتيت أصوات المدنيين.
كشفت هذه الانتخابات أيضاً عن التأثير القوي للخطاب السياسي الإسلامي الذي أعاد إنتاج تداعيات الأحداث الإقليمية خلال السنتين الماضيتين على شكل خطاب تخويفي من الخطر الداهم ضدّ الشيعة في العراق. ولم يكن للتيار المدني قدرة على تفكيك هذه المخاوف، أو إبراز المبالغة فيها أو عدم واقعية بعضها، وكيف أنّ التيارات الإسلامية الغارقة في الفساد ونهب أموال الدولة ليست مؤهلة لأن تكون مدافعاً عن الشيعة في حال كانت هذه المخاطر جدّية وواقعية.
في النهاية، لا يوجد تحديد دقيق لهوية “التشريني” داخل الجمهور العام، فقد كانت في ساحات التظاهر أطياف متعدّدة من العلمانيين والمحافظين، وهؤلاء جميعاً يشتركون بالموقف السلبي من الأحزاب الحاكمة.
وهؤلاء يشكّلون جزءاً كبيراً من الجمهور الذي لم يحدّث بطاقته الانتخابية أصلاً، وجزءاً كبيراً من الجمهور الذي حدّث ولم ينتخب. وعلى التيارات المدنية والعلمانية أن تتواصل معهم إن كانت تريد أن تستمرّ بنضالها لإصلاح الأوضاع العامّة في البلد، وأن تجري مراجعة قاسية للمسارات السابقة، والتعلّم من الأخطاء.

التعليقات معطلة.