تتجه أنظار العراقيين نحو الانتخابات القادمة، لكنّ المشهد هذه المرة يبدو أكثر قتامة من أي وقت مضى. فالثقة بالعملية السياسية تآكلت إلى حدّ خطير، والشعب يواجه معضلة وجودية: هل يقاطع اللعبة الانتخابية ليكشف زيفها، أم يشارك رغم كل عيوبها على أمل أن يطيح ببعض رموز الفساد؟ هذا الصراع بين خيار المقاطعة وخيار المشاركة قد لا يكون مجرد جدل سياسي، بل معركة تحدّد مصير العراق لعقد قادم.
مقاطعة تكشف العجز السياسي
المقاطعة ليست وليدة اللحظة، بل تراكم لغضب شعبي طويل على أحزاب السلطة التي حولت الدولة إلى غنيمة، ووزّعت مواردها بين محاصصة وفساد وسلاح منفلت. فشريحة واسعة من العراقيين ترى أن الذهاب إلى صناديق الاقتراع هو تكريس لشرعية مزيفة، إذ كيف يمكن لانتخابات تُدار بقوانين مفصّلة على مقاس المتنفذين، وتحت أنظار ميليشيات مسلّحة، أن تنتج تغييرًا حقيقيًا؟ المقاطعة هنا تتحول إلى رسالة واضحة: “لسنا طرفًا في مسرحية سياسية فقدت معناها”. لكنها في الوقت نفسه تحمل خطورة كبرى؛ إذ تمنح الأحزاب المهيمنة فرصة ذهبية لإعادة تدوير نفسها بأغلبية مريحة، وتمنح النظام واجهة شرعية ولو بأدنى مستويات المشاركة.
المشاركة… مغامرة محفوفة
على الطرف الآخر، ثمة قوى مدنية وحركات شبابية وشخصيات مستقلة ترى أن ترك الساحة فارغة أمام القوى التقليدية يعني الانتحار السياسي. هؤلاء يراهنون على المشاركة باعتبارها محاولة لاقتحام أسوار البرلمان، وإحداث اختراق ولو محدود في جدار السلطة. لكن المشاركة في ظل موازين القوى الحالية أقرب إلى مغامرة قاسية؛ فالأحزاب الممسكة بزمام الدولة تمتلك المال السياسي، والسلاح، وأجهزة الدولة، إضافة إلى خبرة طويلة في التلاعب بالنتائج والتحالفات. ولذلك، أي مشروع انتخابي إصلاحي لن ينجح من دون دعم شعبي ضاغط ومستمر يتجاوز لحظة التصويت ويواكب ما بعدها.
المعركة الحقيقية: الشعب ضد المنظومة
الخطأ الشائع هو تصوير الانتخابات القادمة على أنها تنافس طبيعي بين كتل سياسية. الحقيقة أن الصراع الحقيقي هو بين الشعب المقهور والمنظومة السياسية التي تشبثت بالسلطة منذ 2003. هذه المنظومة قد تتنازل عن بعض المقاعد لإيهام الناس بالتغيير، لكنها لا تقبل المساس بجوهر اللعبة الذي يضمن بقاءها. وإذا ما غلبت كفة المقاطعة، فإنها ستطيح بالحد الأدنى من شرعية النظام، وتُظهره أمام الداخل والخارج كسلطة بلا قاعدة اجتماعية. لكنّها أيضًا قد تمنحه “استقرارًا زائفًا”، إذ سيستمر في الحكم متكئًا على عزوف الشارع، متجاهلاً غضبه. أما إذا رجحت كفة المشاركة، فإن بعض الرموز التقليدية قد تُطاح فعلًا، وسيظهر جيل سياسي جديد داخل البرلمان، لكنه سيبقى محاصرًا بمؤسسات ملوثة ومحاصصة خانقة، ما يجعل الإصلاح تدريجيًا وبطيئًا ما لم يترافق مع حراك شعبي أوسع.
التأجيل أحد الخيارات في ذهن الفاعل الدولي
ليس خافيًا أن الفاعل الدولي يضع خيار تأجيل الانتخابات على الطاولة، ليس من باب الحرص على العراق، بل من أجل منع وكلاء طهران من إعادة إنتاج نفوذهم عبر صناديق اقتراع مُسيطر عليها. فالتجربة أثبتت أن أي استحقاق انتخابي في الظروف الحالية لن يكون سوى فرصة ذهبية لتكريس هيمنة الميليشيات وتدوير وجوه الفساد. التأجيل هنا يُقرأ كخطوة تكتيكية: إبعاد القوى الموالية لإيران عن المشهد، وتهيئة أرضية لانتقالٍ سياسي أكثر هدوءًا، لكنه في الوقت نفسه ضربة استباقية لمشروع طهران في العراق. إنه تأجيل يراد منه تفكيك أدوات النفوذ الإيراني، وفتح الطريق لتغيير ناعم في شكل السلطة القادمة، يمنح الشرعية لبدائل سياسية جديدة ويُقصي المنظومة التي عاثت في البلاد فسادًا.
من يطيح بمن؟
السؤال الجوهري: من يطيح بمن؟ هل ينجح المقاطعون في إطاحة شرعية النظام برمّته، أم ينجح المشاركون في إطاحة وجوه محددة وفتح ثغرة في جدار العملية السياسية؟ الجواب ليس بسيطًا، لكنه مؤكد أن الخاسر الأكبر هو الطبقة السياسية الحالية، سواء قاطع الشعب أو شارك. ففي الحالتين، الرسالة واضحة: العراقيون لم يعودوا أسرى الأوهام القديمة. المقاطعة تعني سقوط الثقة الكلي، والمشاركة تعني بداية معركة لتفكيك منظومة الفساد من الداخل. الانتخابات القادمة ليست مجرد تنافس على مقاعد البرلمان، بل محطة مفصلية تكشف هشاشة النظام السياسي. المقاطعة الواسعة لن تكون انسحابًا من المعركة، بل إعلانًا عن نهاية لعبة فقدت قواعدها. والفاعل الدولي، الذي يراقب بصبر، لن يتأخر في استثمار لحظة الانهيار ليفرض إصلاحاته. إنها إذن معركة أخيرة بين شعب يريد التغيير الجذري ومنظومة تتمسك بالسلطة حتى الرمق الأخير. والنتيجة محسومة: الانهيار قادم، وما على العراقيين إلا أن يقرروا شكل هذا الانهيار، وسرعته، ومن سيكتب فصله الأخير .