كنت أتمنى أن تكون هذه الانتخابات لحظةَ تجدُّد وطني، وكنت آمل أن يتمكّن الديمقراطيون من هزيمة شعبوية «اجعل أميركا عظيمة مجدّداً» بشكل حاسم، وأن يضعونا على بداية مسار وطني جديد.
إلا أنه من الواضح أن هذا لن يحدث، وبغضّ النظر عمن سيفوز في هذه الانتخابات، ستأتي النتائج متقاربة، وستظل هذه الأمّة منقسمة على نفسها إلى نصفين مريرين ومتساويين تقريباً.
في الماضي، لطالما كنت أنتظر الكثير من السياسة، وعندما يجري حبس بعض الحقائق الاجتماعية والثقافية لا يتبقى الكثير أمام السياسيين يمكنهم فعله لإعادة توجيه الأحداث، وبالفعل، أنفق الحزبان واللجان السياسية المرتبطة بهما مليارات الدولارات هذا العام، ومع ذلك لم يتغير شيء بالسباق، وتكمن البداية في استطلاعات الرأي، وإذا كنتَ قد نِمتَ قبل عام واستيقظت اليوم، ستكتشف أنه لم يَفُتك الكثير، باستثناء أن كامالا هاريس تقود 50 في المائة من الناخبين الآن، وليس جو بايدن.
الآن، أصبح واضحاً أمامي أن السياسيين في معظم الأحيان ليسوا ملّاحين ماهرين، قادرين على أن يقودونا نحو مستقبل جديد. في الواقع، هؤلاء السياسيون يُشبهون راكبي الأمواج، الذين يركبون الأمواج التي يخلقها الناس بأعماق المجتمع.
ودعونا ننظر إلى أميركا بين عامَي 1880 و1910، في السنوات الأولى من تلك الفترة كان المجتمع الأميركي قد انزلق إلى حالة من الاضطراب، بسبب التصنيع والرأسمالية غير المنضبطة، التي أفرزت نمواً اقتصادياً هائلاً، وبؤساً بشرياً لا يُوصَف، واجتاحت موجاتُ الهجرة البلاد، ما أدى إلى حدوث تحوّل في الأجزاء الحضرية من أميركا. كان الفساد السياسي مستشرياً في المدن، وكان العجز السياسي بمثابة القاعدة في واشنطن العاصمة.
في ذلك الوقت، واجهت أميركا تحدياً حضارياً أساسياً: كيف نستغل طاقة التصنيع لبناء مجتمع إنساني؟
وبدأ التجديد الأميركي بقلوب الناس في جميع طبقات المجتمع، وشعر الناس بحاجة مُلِحّة إلى التغيير. وفي كتابه عن هذه الحقبة «ولادة أمة من جديد» شرح جاكسون ليرز أن «كل التاريخ هو تاريخ الحنين»، وعبّر عن اعتقاده بأنه خلال هذه العقود «هيمن على الحياة العامة حنين واسع النطاق تجاه التجديد – لولادة جديدة روحية وأخلاقية وجسدية مختلفة – وألهم حركات وسياسات شكّلت الأساس للمجتمع الأميركي في القرن العشرين».
إلا أن بعض الحركات التي نشأت عن هذا الحنين كانت شريرة، واعتقد البعض أنهم قادرون على فرض النظام على مجتمع غير منضبط، من خلال علم الأعراق الزائف، وخرافة التفوق الأبيض، كان هذا عصر الإعدام دون محاكمة والإرهاب العِرقي.
في الوقت ذاته نجحت حركات أخرى في تحقيق ولادة جديدة بالفعل؛ أولاً: حدث تحوّل ثقافي، حلّت حركة الإنجيل الاجتماعي – التي أكّدت على التضامن المجتمعي وخدمة الفقراء – محل الفلسفة الداروينية الاجتماعية القاسية.
وبعد التحوّل الثقافي حدثت نهضة مدنية مستندة إلى مُثُلها العليا، على سبيل المثال، خفّفت حركة «بيت التوطين»، التي قادتها نساء مثل جين آدامز من شيكاغو، من محنة الأُسَر المهاجرة الفقيرة، وسعت «حركة الاعتدال»، التي كان معظم قادتها من النساء، إلى الحدّ من شرب الخمر وإساءة معاملة الزوجات.
وظهرت النقابات المطالِبة بأجور عادلة، ويوم عمل من ثماني ساعات، وانتشرت الحركة البيئية، ليس فقط لحماية البرّية، بل كذلك لرعاية نوع الحيوية البشرية التي تأتي من خلال الاتصال بالطبيعة. وعند قمة المجتمع فرض أباطرة مثل جيه بي مورغان النظام على عالم الشركات؛ للحدّ من موجات الرواج والكساد، وبنى رُوّاد الأعمال الخيرية، مثل أندرو كارنيغي وجون روكفلر، المكتبات والمتاحف والجامعات.
وبحلول الوقت الذي تولّى فيه ثيودور روزفلت الرئاسة عام 1901، كان المجتمع يعُجّ بالتغييرات التي بدأت بالتغيير الثقافي أولاً، ثم النهضة المدنية، ثم الإصلاح السياسي.
اليوم، نواجه سؤالاً حضارياً كبيراً آخر: كيف يمكننا خلْق ديمقراطية متماسكة أخلاقياً وفعّالة سياسياً في ظل التعددية والتنوع؟
اليوم، لا أرى أي حركة ثقافية تشبه «حركة الإنجيل الاجتماعي» في تسعينات القرن التاسع عشر، إن المكتبات تئِنّ بالكتب التي تشخّص انقساماتنا، ولكن أين النموذج الاجتماعي الجديد؟ أين مجموعة القيم التي ستحفز الناس على وضع هواتفهم جانباً، وتكريس حياتهم لتغيير العالم؟
بعضَ الأيام، أعتقد أن الجزء المرتبط بالنهضة المدنية يسير بشكل جيد، ومن خلال عملي في مشروع النسيج الاجتماعي ألتقي بقادة محليين يسعون جاهدين لإعادة بناء التضامن، وخدمة المهمّشين على مستوى الحي. ومع ذلك فإنه حتى الآن لم تتمكّن هذه الجهود من التغلب على الانحدار الكارثي في مشاعر الثقة الاجتماعية، ولا تزال أمّتنا تفتقر إلى الشعور بالسلامة الاجتماعية والنفسية، الذي من شأنه أن يسمح لنا بإجراء محادثات مُثمِرة عبر الاختلافات الحزبية، ولا نزال نفتقر إلى عقيدة وطنية أو سرد وطني، من شأنه أن يمنحنا أرضية مشتركة بين أنظمة المعتقدات المتنافسة.
قبل بضع سنوات، بدا الأمر وكأن هناك حركة اجتماعية قادرة على إحداث تغيير جذري، التي أعتقد أنني يمكن أن أطلق عليها اسم «التقدُّمية الجديدة». وبرزت مجموعات مثل «احتلوا وول ستريت»، وحركة «حياة السود مهمة»، وكانت برامج المساواة العِرقية تكتسح الشركات والجامعات، وعرَض الساسة أجندات طموحة؛ الصفقة الخضراء الجديدة، والرعاية الطبية للجميع، وتعهّد المرشحون الرئاسيون بإلغاء تجريم عبور الحدود.
ومع ذلك، تبيّن بمرور الأيام أن التقدُّمية الجديدة كانت طريقاً مسدوداً، فقد تراجعت برامج التنوع والمساواة والاندماج، أو كما حدث في جامعة ميشيغان، سقطت في حالة من الاضطراب.
اليوم، لا يتحدث الديمقراطيون كثيراً عن المقترحات الجذرية، مثل الرعاية الصحية للجميع، التي بدت عصرية أوائل عام 2020، في الوقت ذاته تتحرك البلاد نحو اليمين بشأن قضايا مثل الهجرة والاقتصاد، وهاريس تتحرك معها.
مما سبق، يبدو لي أن هذه الانتخابات تأتي قبل الأوان بكثير، فهي تأتي قبل أن تتوافر الشروط الثقافية والمدنية، التي قد تؤدي إلى تسريع وتيرة الإصلاح السياسي والتشريعي، ومن غير العدل أن نطلب من هاريس، التي كانت مرشّحة رئاسية لمدة 3 أشهر فقط، أن تضع رؤية للتجديد الوطني الشامل في ظل هذه الظروف، إن الساسة، وخصوصاً عندما يترشحون لمنصب ما، لا يُصبحون سوى انتهازيين محترفين، يحاولون إرضاء الكتل الانتخابية، ونادراً ما يحملون رؤى حقيقية.
* خدمة «نيويورك تايمز»