كانت الانتخابات الرئاسية الأمريكية، التى فاز بها باراك أوباما، بولاية أولى، عام 2008، علامة فارقة فى تاريخ الانتخابات السياسية العامة على مستوى العالم لأسباب عديدة؛ وبين أهم تلك الأسباب، سيبرز تدشين الدور المُهم، والمتنامى، والحاسم أحيانًا، لوسائل «التواصل الاجتماعى» فى العمليات السياسية. ففى تلك الانتخابات، وما تلتها من استحقاقات انتخابية واستفتاءات أخرى، سواء فى الولايات المتحدة أو أوروبا أو دول العالم المختلفة، لم تتوقف هذه الوسائل عن التأثير فى سير العمليات الانتخابية ونتائجها، إلى حد أن مارك زوكربيرج، مؤسس «فيسبوك»، عدّها «أداة للتعبير السياسى الحر وتدعيم الديمقراطية»، رغم كل ما يكتنف أداءها من عوار وعيوب هيكيلية.
لقد باتت وسائل «التواصل الاجتماعى» اليوم أشبه بساحة انتخابية كونية، تتقاطع فيها مسارات السياسة والإعلام والتكنولوجيا فى فضاء واحد لا تحدّه حدود، بعدما أضحت هذه المنصات رافعة رئيسية للحملات الانتخابية فى دول العالم المختلفة، حيث تُبث رسائل المرشحين مباشرة إلى جمهور واسع تتداخل آراؤه وتشتبك مصالحه فى لحظة واحدة.
تحولت تلك الوسائط إلى محرّك فعلى لتوجهات الناخبين، وإلى مقياس فورى لنبض الشارع، بل إلى ممرّ إجبارى لكل من يسعى إلى التأثير أو الحشد أو صياغة الرأى العام.
غير أنّ هذا الامتداد الرقمى الهائل لم يكن يومًا خاليًا من العيوب. فمنصات «التواصل الاجتماعى» فتحت الباب عريضًا أمام المعلومات المُضللة، التى تتكاثر بسرعة الضوء، وتجتاح وعى الجمهور عبر عناوين مثيرة وقصص مختلقة أو مجتزأة. وقد أثبتت تجارب عالمية متتالية أن التأثير الخفى الذى تمارسه الحملات الرقمية الموجَّهة يمكن أن يُربك الناخب، ويشوه الواقع، ويستغل ثغرات الخوارزميات التى تحبس المُستخدم فى دائرة من الآراء المتشابهة، فلا يرى إلا صدى معتقداته، فتضيق رؤيته، ويزداد الاستقطاب. وبهذا يصبح الصخب الرقمى قادرًا على زعزعة الثقة العامة، بل وعلى التدخل فى صميم العملية الديمقراطية نفسها.
ولم تقتصر الإشكالات على التضليل الداخلى فحسب، بل امتدّت إلى دخول أطراف أجنبية فى المشهد الانتخابى لبعض الدول عبر حملات رقمية منظمة تستهدف حرف بوصلة الناخبين.
وعلى الرغم من هذا الزخم السلبى، فقد برزت زاوية أخرى مضيئة جعلت من وسائل «التواصل الاجتماعى» سلاحًا فى يد الشعوب، لا فى يد المتلاعبين فقط. فقد أتاحت هذه الوسائط فضاءً مفتوحًا للمراقبة الشعبية، ومكّنت المواطن العادى، أو صاحب المصلحة نفسه من أن يكون شاهدًا ومُوثقًا ومُبلّغًا فى اللحظة ذاتها.
وفى بلدان عدة، انتشرت مقاطع مصوّرة تُظهر تجاوزات انتخابية واضحة، من حشو لصناديق الاقتراع، إلى تلاعب فى فرز الصناديق، أو منع مراقبين من دخول اللجان، أو استخدام المال السياسى لشراء الأصوات، أو انتهاك اشتراطات الدعاية الانتخابية. هذا الدور الرقابى الشعبى كسر الكثير من الحواجز، التى كانت تحول دون كشف التلاعب فى الماضى، حين كانت المعلومة تُحتكر أو تُخفى فى أدراج المؤسسات، أو تُطوع وفقًا لمساومات «الإعلام التقليدى».
وفى مصر، خلال الانتخابات البرلمانية الجارية، تجلّى هذا الدور الرقابى بفاعلية لافتة. فقد تدفقت عبر المنصات الرقمية شكاوى ومقاطع مصورة تُظهر ممارسات شابها خلل أو تجاوز، كان بعضها مبالغًا فيه أو منقوصًا، غير أن بعضها الآخر حمل من الدلالات والوقائع ما لم يعد قابلا للتجاهل. ففى بعض المقاطع التى انتشرت أخيرًا ظهرت أنماط تلاعب فاضحة، وشكاوى من انتهاكات وتدخلات غير قانونية فى مجريات العملية الانتخابية، وهو ما أثار دهشة واسعة واستنكارًا عامًا.
ومع تصاعد التفاعل الشعبى، وصلت أصداء بعض هذه المقاطع إلى دوائر صنع القرار العليا، فصدرت توجيهات واضحة بضرورة مراجعة العملية الانتخابية بدقة، والنظر فى الطعون، وإلغاء أى نتائج يثبت أنها جاءت ملوّثة بالتلاعب أو الانحراف عن النزاهة، فى رسالة تعكس إدراكًا رسميًا لقوة الرقابة الشعبية الرقمية وضرورتها.
إن هذه اللحظات تعيد تأكيد حقيقة مركزية مفادها أن وسائل «التواصل الاجتماعى»، مهما كان ما يحيط بها من مثالب، أصبحت اليوم قناة لا غنى عنها لتحقيق الشفافية ومواجهة الانحرافات، التى قد تشوب العمليات الانتخابية.
لقد أمست عدسة المواطن، وهاتفه المحمول، وتدويناته الفورية، جزءًا من منظومة واسعة تحاصر التزوير، وتُضيّق مساحات التلاعب، وتُجبر المؤسسات على التجاوب، عندما يستشعر الناس أن أصواتهم لم تُحترم.
لكن هذا الدور الإيجابى لا يُسوغ التغافل عن الوجه المظلم لهذه الوسائل، لأن غياب الانضباط فى استخدامها قد يقوّض الثقة العامة، ويؤدى إلى نتائج عكسية تُغرق المشهد فى ضباب التشكيك الذى لا ينتهى.
من هنا يصبح الوعى ضرورة لا ترفًا. فوسائل «التواصل الاجتماعى» يمكن أن تكون حليفًا للديمقراطية إذا أحسن الناس استخدامها، وكانت عيونهم مفتوحة على الحقيقة لا على الإثارة. وهى فى المقابل يمكن أن تكون خنجرًا فى خاصرة العملية الانتخابية إذا تُركت نهبًا للتضليل والشائعات. ولذا فإن الموازنة بين الرقابة الشعبية والتمسك بالدقة، وبين الحذر من التهور الرقمى، هى السبيل لتعزيز دور تلك الوسائط كنافذة للشفافية والمساءلة.
كما يبقى الإدراك والتجاوب الرسميين الفعالين لحصاد المراقبة الشعبية، عبر تلك الوسائط، من حسن الفطن، وضرورات السياسة، ومقوماتها الأساسية.

