الانجذاب نحو القضايا المهجورة

1

 
محمد حسين أبو العلا
 
كم وكم من القضايا والمسائل والمشكلات والأفكار التي لا تتربع في بؤرة اهتمام العقل العربي والإسلامي على أهميتها القصوى. فإن كان تاريخ الهوية الثقافية العربية يعد شاهداً على ما تعرضت له من هجمات خلال أحقاب مختلفة من جانب ثقافات أخرى لكنها صمدت وصعدت واحتفظت بكافة مقوماتها وظلت داخل بوتقة التفاعل والاحتكاك إثراءً لذاتها ومقاومة للآخر، لكنها اليوم لابد أن تستعيد تلك الإرادة التاريخية التي كتبت لها البقاء لأن الصراعات الثقافية المحتدمة منذ أكثر من عقدين إنما جاءت دعماً لمشاريع ما بعد الاستعمار وتأصيلاً لقيم الثقافة السائدة المتغلبة.
 
 
وليس هناك من دلالة لتلك الصراعات أكبر من كونها تمثل اختلالاً وظيفياً لنظام كوني يردد كلمات عن الأسطورة الحداثية وما بعد الحداثية والعولمة والليبرالية الجديدة لكن ما يعنيه بالفعل هو الصدام باعتبار أن نتائجه تعد محسومة، لكن ذلك ربما يخالف مسيرة التاريخ الإنساني في لمحات عديدة. من ثم فقد صارت التنشئة الثقافية أخطر المتغيرات المجتمعية، لا سيما في هذه اللحظة المعاصرة ذات الخصوصية التاريخية التي تستوجب الوقفة الواعية كما تستوجب طرح العديد من التساؤلات باعتبارها تعد إحدى المواجهات الذهنية والسلوكية للأفراد، إذ قد تغيرت مرتكزاتها إلى مرتكزات أخرى أنتجت العديد من الإشكاليات على صعيد الفكر والممارسة، من ثم فالقضية إزاء هذا المعنى إنما تكمن في التغير النسبي لمحتواه والتغير الكلي في مرتكزاته. فبعد أن كانت الأسرة باعتبارها نموذجاً ثقافياً تدعم لدى الأفراد كافة القيم الدينية والأخلاقية والاجتماعية والوطنية وغيرها من القيم البناءة تقلصت أدوارها، وكذلك بعد أن كانت العملية التعليمية كنموذج ثقافي أيضا تعد ضامنة لوجود الحد الأدنى من المعايير التربوية والعلمية والإنسانية بصفة عامة صارت على درجة من التقليدية والعشوائية والرتابة التي لا تسهم في بناء إنسان جديد متوافق مع معطيات الحضارة توافقا إيجابيا، أما عن التغير الجذري فيتمثل في استحواذية تلك الطاقة الرقمية والمعلوماتية على تشكيل واستحداث العلوم والثقافات بما حقق انقلاباً معرفياً غير مسبوق، ومن هنا كان التصارع الحاد بين الانجذاب والشغف بالثورة الرقمية وبين الحفاظ على الهويات بما تحمله من تاريخ وعقائد وجذور حضارية.
 
وانطلاقاً من ذلك تظل التنشئة الثقافية من أهم التحديات المطروحة مجتمعياً، وعلى ذلك تتجلى العديد من التساؤلات الكاشفة على غرار: ما هي آثار التغير المعلوماتي الكوني على التنشئة الثقافية العربية؟ ولأي مدى كانت درجة استجابة الأفراد في المجتمعات الشرقية لكافة المتغيرات الحادثة؟ وما هو أثر العولمة الثقافية على المفاهيم والمدركات وضمنا مفهوم التنشئة الثقافية؟ ولأي مدى خضع هذا المفهوم لآليات التغريب؟ وكيف تستقيم أصول التنشئة الثقافية في ظل طغيان تيار ما بعد الحقيقة الباعث على إثارة وتكريس الأكاذيب والشائعات وغيرها من الموبقات الثقافية والفكرية؟، وهل تأثرت أساليب التنشئة الثقافية بالإعصار الاجتماعي المشحون بسرعة التحولات لا سيما الشاذة منها أخلاقيا وفكريا؟ وهل تمثل صورة الوجود الاجتماعي المعاصر سوى أثر من آثار التنشئة الثقافية؟ وكيف يمكن أن تمثل فكرة رؤى العالم بعداً جديداً أو منطلقاً حداثياً في مفهوم التنشئة الثقافية؟
 
لكن مهما تمحورت أبعاد التنشئة الثقافية فإنها تظل أسيرة للعديد من المسلمات، أولها: إن الثقافة تعد هي الخريطة العقلية التي تساعدنا على خلق علاقات سوية مع الآخر وكذلك علاقات منطقية مع الأشياء. ثانيها: إن المجتمعات تختلف في أنماط حياتها اختلافاً جذرياً. من ثم فإن كل مجتمع في حاجة ماسة إلى نمط ثقافي يميزه ويكون مجسداً لملامح هويته.
 
ثالثها: إن مواكبة التغيرات المستقبلية لا تتأتى إلا عن طريق التنشئة الثقافية وهو ما يضفي عليها أهمية كبرى.
 
رابعها: إن التصاعد اللحظي لموجات الثورة الرقمية أدى إلى تغير مباشر في المنظومة المفاهيمية.
 
فإذا كانت التنشئة الثقافية تستهدف بناء شخصية الأفراد وفقا لما درج عليه المجتمع عبر تراثه بحيث تعد سامحة بالتعامل مع التغيرات المهددة لاستئصال الهوية في إطار أدوار ديناميكية للأفراد فإنه لابد من استنهاض حركة مجتمعية تعمل على تفعيل آليات الضبط الاجتماعي، مستثيرة للأنا العليا التي هي الضمير الجمعي لتصبح التنشئة الثقافية هي الإطار المرجعي الأصيل.

التعليقات معطلة.