محمد خالد
يعاني العراقيون الباحثون عن الدولار مصاعب جمة من أجل إيجاده، فإذا وجدوه كان سعره مضاعفاً. وبينما تسببت العلاقات مع إيران في جانب كبير من الأزمة، فإن حجم التجارة بين بغداد وطهران يجبر العراقيين على خوض تلك الرحلة الشاقة.
وتفاقم القيود المفروضة في العراق على التحويلات المالية، امتثالاً للإجراءات والضوابط التي تقرها الولايات المتحدة لضمان عدم وصول الدولار إلى كيانات خاضعة للعقوبات الأميركية، أزمة العملة الأجنبية في بغداد، الأمر الذي يدفع المتعاملين والمتنفذين إلى السوق الموازية كمتنفس لإتمام معاملاتهم وإجراء التحويلات المالية، وبما يسهم في اتساع الفجوة السعرية في السوق مع السعر الرسمي.
وبينما ترتبط أزمة الدولار بعامل “الوفرة” في بلدان ترزح تحت وطأة المعاناة مع العملة الأميركية، مثل مصر ولبنان على سبيل المثال، إلا أن الوضع في العراق – الغني بموارده النفطية – لا يتعلق بنقص العملة، بل يعاني أساساً صعوبة الحصول عليها في سياق مجموعة القيود المفروضة على التعاملات بالدولار، ولا سيما أن بغداد واقعة في قلب معادلة مصالح “نادرة” تتمثل في علاقتها مع الطرفين الأميركي والإيراني.
ترتبط تلك الصعوبات بعديد من العوامل التي أفضت إلى الوضع الراهن؛ من بينها العقوبات الأميركية التي فُرضت في وقت سابق، والتي وضعت قيوداً على التعامل بالدولار على بعض المصارف الوطنية، ضمن مساعٍ أميركية لعدم وصول العملة لدول خاضعة لعقوبات أميركية، ولمنع التحايل على تلك العقوبات.
وبموجب اتفاقية وُقعت مع الولايات المتحدة، يودع المركزي العراقي إيرادات البلد النفطية في حساب خاص لدى الفدرالي الأميركي، وذلك منذ عام 2004. ومن أجل حصول بغداد على الموارد الدولارية، يتطلب ذلك مجموعة من الإجراءات الضرورية في سياق الشفافية ولضمان عدم استخدام أموال التحويلات في مآرب أخرى أو أن تجد طريقها لدول تخضع لعقوبات تفرضها واشنطن.
وتشير التقديرات إلى أن العراق الذي لديه احتياطات تقدر بما يفوق الـ100 مليار دولار في الولايات المتحدة، يحصل على نحو ما بين 100 إلى 150 مليون دولار يومياً من الفدرالي. ويقدم المركزي العراقي الدولار للسوق من خلال منصة مزاد العملة.
ويعد العراق مرتكزاً أساسياً في حملة واشنطن الهادفة للحد من تدفق الدولار إلى إيران، حيث تخضع طهران للعقوبات.
وكانت سوق الصرف في العراق قد تعرضت لهزّات عنيفة في فترات مختلفة خلال السنوات الماضية فاقمت حدة التحديات التي تواجهها، كانت المحطة الأبرز فيها في عام 2014 ومع انتشار تنظيم “داعش”، ثم الضربة التي تلقتها الأسواق بعد ذلك في 2020 إبان جائحة كورونا وتداعياتها، وبما اضطر المركزي للتدخل لشراء الدولار عبر سندات الخزانة من أجل توفير العملة.
دولار السوق الموازية
الخبير الاقتصادي العراقي، نبيل المرسومي، يتحدث في تصريحات خاصة لـ”النهار العربي” عن الفجوة الحالية بين سعر الدولار الرسمي والسعر في السوق الموازية، موضحاً أن تلك الفجوة في حدود الـ15 في المئة، ومضى عليها فترة طويلة ولم تنخفض رغم أن البنك المركزي اتخذ عديداً من الإجراءات الهادفة إلى معالجة هذه الأزمة، لكن بقيت العوامل الأساسية الحاكمة لها في سوق الصرف الأجنبي، والتي تؤدي لتلك الفجوة واستمراريتها.
ويوضح المرسومي أن أهم عامل ضمن تلك العوامل الأساسية هو ما يتعلق بوجود تجارة كبيرة بين العراق وإيران؛ فبغداد تستورد سلعاً تصل قيمتها إلى أكثر من 10 مليارات دولار سنوياً، لكن بعد تفعيل المنصة الإلكترونية من قبل الفدرالي الأميركي مُنعت تلك الحوالات… وبالتالي كان ضرورياً أن تكون هناك آلية لتمويل التجارة، وهو ما دفع المتعاملين إلى السوق الموازية التي عرفت طلباً متزايداً لتجميع الدولار وإيصاله إلى إيران، سواء من خلال طرق دفع إلكترونية أو باستخدام الحدود الطويلة في تهريب الدولار لسداد مستحقات التجار الإيرانيين.
وتبعاً لذلك فإن الأزمة لا ترتبط مباشرة بالمضاربة، بل بتمويل تجارة حقيقية لم تفلح الوسائل الحكومية في إيجاد طرق أخرى لها، لا سيما في ضوء حاجة السوق العراقية للسلع الإيرانية التي تمتاز بالرخص.
ويضيف المرسومي: “من ناحية أخرى، فإن المسافرين العراقيين إلى إيران، بغرض السياحة أو السفر أو العلاج والدراسة، أعدادهم كبيرة. وهؤلاء ليس لديهم مقدرة أيضاً على الحصول على الدولار من السوق الرسمية، وبالتالي يلجؤون إلى السوق الموازية.. ويشار إلى أن إنفاق العراقيين في إيران بلغ 3.4 مليارات دولار في 2023، وهو ما يشكل ضغطاً على السوق الموازية، وبالتالي يرتفع السعر”.
وعليه، يعتقد الخبير الاقتصادي أن الفجوة سوف تظل قائمة ما لم تجد الحكومة العراقية حلاً لآليات تحويل أو لتمويل التجارة مع إيران.
إجراءات جديدة
وبموجب إجراءات جديدة في سياق السيطرة على تدفق الدولار، أصبحت الحوالات المباشرة التي تتم خارج المصارف مقتصرة على الدينار العراقي بالسعر الرسمي.
وقرر العراق هذا الأسبوع منع ثمانية بنوك تجارية محلية من التعامل بالدولار، وذلك في إطار الإجراءات المتخذة للحد من عمليات الاحتيال وغسل الأموال وغير ذلك من الاستخدامات غير المشروعة للعملة الأميركية.
وفي تموز (يوليو) الماضي، كان العراق قد منع أيضاً 14 بنكاً من إجراء معاملات بالدولار في إطار حملة أوسع استهدفت الحيلولة دون تهريب الدولار إلى إيران آنذاك عبر النظام المصرفي العراقي.
جذور الأزمة
ويشرح الخبير الاقتصادي العراقي، نبيل التميمي، في تصريحات لـ”النهار العربي” جذور تصاعد أزمة الدولار في العراق في السنوات الأخيرة، موضحاً أن الأزمة ترتبط مباشرة بحالة الفوضى في القطاع المصرفي العراقي المتراكمة منذ عقدين من الزمن، على وقع السياسات المتبعة. وقد تفاقمت فاتورتها مع طلب بنك الاحتياطي الفدرالي الأميركي من المركزي العراقي اتخاذ ما يلزم لتنظيم عمليات التحويل والتحويلات التجاري الخارجة من بغداد، على أساس أن بعض تلك المعاملات كان يتم إجراؤها من خلال مستندات صورية أو مزورة ليست مرتبطة بعمليات تجارية أو واردات (أي أن تلك الحوالات كانت تُستخدم بالأساس لأغراض مرتبطة بغسيل الأموال والتهريب وتمويل الإرهاب).
وكان ذلك بينما كان المركزي العراقي – بحسب التميمي – متأخراً في اعتماد إجراءات جذرية تتماشى مع حجم المتغيرات التي تشهدها آليات التحويل العالمية ونظام “سويفت” الخاص بالحوالات بدلاً من الأنظمة التقليدية. فيما شهدت السوق ارتباكاً مع نظام سويفت ولم تستطع التأقلم ومجاراته لكثير من الأسباب.
ويوضح أن تلك التطورات تزامنت، وعلى إثرها توجه المتعاملون لإجراء الحوالات من خلال قنوات بديلة بعيدة من النظام المصرفي، بما في ذلك نقلها (مادياً) من بلد لآخر عبر الحدود ومن ثم تحويلها لبدان أخرى، الأمر الذي عزز الطلب المحلي على الدولار، وبالتالي أدى إلى ارتفاع سعر صرف العملة الأجنبية في الأسواق الموازية، في خطٍ متوازٍ مع الصعوبات التي يواجهها المتعاملون في الحصول على دولار البنك المركزي بغرض الحوالات، وفي ضوء الاشتراطات التي يتم تطبيقها، ذلك أن الأمر يحتاج إلى وثائق ذات صلة بالاستيراد، فيما من ناحية أخرى لا تتطلب السوق الموازية أي شروط.