البديل العلماني للجهاد

1

علي العميم

علي العميم

صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.

هل حربُ التَّحرير – كما قال عبد الحميد أبو سليمان – هي الصيغة العصرية للجهاد؟ أعيد طرحَ سؤال المقال الماضي، لأكمل الإجابة عنه في هذا المقال.

في الخطاب القومي العلماني وفي الخطاب اليساري بمختلف تياراتِه كانت تستعمل كلمة «مناضل» وكلمة «النضال» وكلمة «الكفاح» بديلاً علمانياً لكلمتي «مجاهد» و«الجهاد».

وفي الأدبياتِ الماركسية العربية يسمى الجهاد «الجهاد المقدس». صحيح أنَّ سواهم – والذين منهم من ينتمون إلى الخطاب الديني الإسلامي – يستعملون هذه التسمية، إلا أنَّ هؤلاء يستعملونها بعفوية لغوية وببراءة آيديولوجية تأثراً بلغة الصحافة وبلغة الأدب المتأثرتين هما أيضاً بلغة الترجمة من اللغة الإنجليزية واللغة الفرنسية إلى اللغة العربية. فعن طريق التأثر بالترجمة من هاتين اللغتين صارت صفة القداسة – بالتذكير والتأنيث – تلحق بكلمات لم يكن معهوداً في الأسلوب والبيان العربي القديم أو الأصلي إلحاقُ هذه الصفة بها.

في الكتاب التجميعي «الجهاد في سبيل الله» للمودودي والبنا وقطب، الذي أحال عبد الحميد أبو سليمان إليه في غير موضعه – كما أوضحت ذلك في المقال الماضي – يقول أبو الأعلى المودودي: «فأنت ترى أن الإسلام قد تجنّب لفظة (الحرب) وغيرها من الكلمات التي تؤدي معنى القتال (war) في اللغة العربية، واستبدل بها كلمة (الجهاد) التي تؤدي معنى (بذل الجهد والسعي)، ويرادفها كلمة (struggle) في اللغة الإنجليزية، غير أن لفظة (الجهاد) أبلغُ منها تأثيراً وأكثر إحاطة بالمعنى المقصود».

Struggle ترجمتها إلى اللغة العربية هي: يكافح، والكفاح؛ إذ إنها فعل واسم في آن واحد. وحين تُراجع معانيها بقواميس اللغة الإنجليزية، وتُراجع معاني كلمة «جهاد» بقواميس اللغة العربية، ستعرف أن ما قاله المودودي هو قول صحيح.

بعد الثورات العلمانية على صُعُد شتى في الغرب ونجاحها، اكتسى مصطلح «حرب مقدسة» و«حرب أو حملة صليبية» معنًى سلبياً، لذا فإنَّ المصطلح الأخير من أجل استمرار استعماله أُفرغ من معناه الديني الأصلي، واستُبدل به معنى دنيوي نافع، مثل قولهم: سنشنُّ حملة صليبية على المرض أو على الفقر أو على الفساد؛ الفساد السياسي أو الاقتصادي… إلخ. وعلى الضفة السوفياتية قيل: سنشن حرباً مقدسة على الإمبريالية.

ولمَّا ترجم الغرب كلمة «الجهاد» إلى «الحرب المقدسة»، فهو ترجمها بهذا المصطلح غير المستحَب في الغرب بعد أن تعلمن. وممَّا زاد الأمر سوءاً أن أوروبا كانت في قرونها الدينية ساحة حرب بارزة صالَ فيها الجهاد الإسلامي قروناً عدة.

بدأ الغرب استعمال كلمتي «جهاد» و«جهاديين» بلفظيهما العربيين في وسائل الإعلام وفي الأوساط الأكاديمية، في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات الميلادية. وقد ذاعتا عند أهله كثيراً بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001.

في اللغة العربية معنى كلمة «جهاد» متعدد، ولا يقتصر معناها على المصطلح الإسلامي «الجهاد في سبيل الله».

ولأن معانيها متعددة أطلقت عائلات مسيحية فلسطينية وسورية ولبنانية على أبنائها اسم «جهاد» بالمعنى اللغوي وليس بمعناه الفقهي. وتقصر معرفتي عما إن كانت العائلات القبطية في مصر، والعائلات المسيحية في العراق، سمّت أبناءها بهذا الاسم، أم أنها لا تسمي أبناءها به.

أَخلصُ من بعض ما ذكرتُ إلى أن اعتبار عبد الحميد أبو سليمان في رسالته للدكتوراه «النظرية الإسلامية للعلاقات الدولية: اتجاهات جديدة للفكر والمنهجية الإسلامية» حروب التحرير صيغة عصرية للجهاد، وتسميته لها جهاد «التحرير» كان خطأً بيِّناً.

رأى عبد الحميد أبو سليمان أن «التأثير الماركسي على العلاقات الدولية من الفكر الماركسي ذو أهمية لا تُذكَر (كذا في الترجمة العربية لرسالته)، كما كانت المفردات الماركسية، بشكل عام، منبع إرباك وحيرة متزايدين، ولم يكن من الواضح ممن يُراد التحرر ولماذا.

وللدلالة على ذلك فقد حملت هذه المفردات معاني مُبهمة لمفهوم الجهاد في حرب التحرير الجزائرية والحرب الأهلية اليمنية.

إن نقده هذا فيه ارتباك، وفيه أخطاء معلوماتية؛ فليس واضحاً إن كان يتحدث عن حروب التحرير الوطنية أم حروب التحرير الشعبية.

لقد مهّد للحديث عن تأثر العالم الإسلامي بالماركسية، بقوله: «وكان الاتجاه المتنامي لعلاقات الدول الإسلامية الخارجية، بعد الحرب الكونية الثانية مباشرة، يبتعد عن السلام، ويخطو نحو المواجهة مع الغرب. وشهدت هذه المرحلة تورط الدول العربية بالمسألة الفلسطينية (!) وثورة العرب المسلمين في شمال أفريقيا ضد الاحتلال الأوروبي لبلادهم، وكان الإندونيسيون المسلمون منشغلين في حرب عصابات ضد المستعمر الهولندي».

إندونيسيا من البلدان التي شهدت حرب تحرير شعبية. ودول جنوب شرقي آسيا عامة شهدت حروب تحرير شعبية. الجزائر شهدت حرب تحرير وطنية وحرب تحرير شعبية.

حُدِّد تأثر العالم الإسلامي بالماركسية زمنياً ببروز الاتحاد السوفياتي كقوة عظمى بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، مع أن زمنه أقدم من ذلك. فعلى نحو عام، هذا التأثر بدأ بُعَيْد الثورة البلشفية 1917، إذ أنشئت أحزاب شيوعية في بلدان إسلامية عدة.

النطاق الجغرافي في العالم الإسلامي الذي خصّه بالوقوف على تأثره بالماركسية، هو البلدان العربية. وكان بذلك يشير إلى البلدان العربية التي ربطتها علاقات صداقة ونصرة وتحالف مع الاتحاد السوفياتي.

مرة أخرى، نحن أمام تحديد زمني خاطئ، فمصر وسوريا والعراق والجزائر واليمن الجنوبي لم يكن لها هذا النوع من العلاقة بالاتحاد السوفياتي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. كما أن هذه العلاقة الخاصة بين هذه البلدان والاتحاد السوفياتي نشأت في أعوام متفاوتة، ولم تنشأ دفعة واحدة. ولم يكن سببها سبباً عاماً – كما قال – وهو ظهور الاتحاد السوفياتي بعد الحرب الكونية الثانية كقوة عظمى، فلكل بلد من هذه البلدان أسبابه في تكثيف العلاقة بالاتحاد السوفياتي.

وللتنبيه، أنا لم أنس ليبيا، فلم أذكرها لأنه في العام الذي أنجز أبو سليمان فيه رسالته، عام 1973، كان رئيسها معمر القذافي لا يزال يذم في العلن العقيدة الشيوعية. فليبيا ارتبطت بعلاقة خاصة مع الاتحاد السوفياتي عام 1974. وللحديث بقية.

التعليقات معطلة.