دون أي ملامح لانتهاء الكابوس الذي يعيشه السودانيون، تطوي الحرب عامها الأول وسط دمار هائل لحق بالعاصمة وعدد من الولايات، وشلال من الأزمات والأوضاع الإنسانية التي تنذر بمجاعة تهدد نصف عدد السكان في بلد كان يصنف على أنه سلة غذاء العرب. وبين مناخات الرصاص والتهجير، تسود حالة من الإحباط بشأن مصير بلد لا يكاد يخطو قليلاً حتى يقع مجدداً في حفرة الحروب نفسها.
عاصمة من الخوف
يتوسط شارع الستين قلب العاصمة الخرطوم، ممتداً من محيط المطار الدولي حتى الجنوب عند شارع مدني، ليضم تفرعات تقود إلى النيل الأزرق وضفته الشرقية وإلى أحياء الرياض ومكة والطائف، المصنفة ضمن أرقى المواقع السكنية، حيث عشرات الشركات والمصارف والبعثات الدبلوماسية.
يستذكر طبيب القلب عبد الهادي أحمد ليلة الرابع عشر من نيسان (أبريل) 2023، أو ما يصفها بصحوة الموت، ليستيقظ في اليوم التالي على أصوات الرصاص بالقرب من سكنه، ثم أصوات يصفها بالمرعبة لسلاح الطيران. يكتشف بسرعة أن “الواقعة قد وقعت” بين الجيش و”الدعم السريع”، فيضطر لالتزام بيته وأسرته لأربعة أيام، ينجح بعدها في الخروج إلى شارع الستين في محاولة للعثور على مخبز أو متجر يؤمن لعائلته بعض الطعام.
“كطبيب اعتدت منظر الدم والجثث، ولكن المشهد في الشارع كان صاعقاً”، يقول. ويضيف لـ”النهار العربي”: “أخبرني الناس أن قذيفة سقطت أمام متجر يملكه سوريون، فقضى عامل على الفور، دون أن يتمكن أحد من انتشاله أو إسعاف رفيقه المصاب جراء انتشار القناصة في المنطقة، التي استحالت فارغة إلا من أناس يقفون بانتظار شاحنة أو حافلة أو أي وسيلة نقل تبعدهم عن الحرب.
لكن هذا لم يكن الرعب الأكبر بالنسبة لعبد الهادي، فحين قرر بدوره مغادرة الخرطوم باتجاه ولاية آمنة، لم يكن الطريق آمناً بوجود نقاط تفتيش قد تنهي حياته. ويعقب: “توجهت من شارع مكة إلى منزل قريب لي في حي أركويت، ومنه الى فندق وسط الخرطوم، تتجمع الجاليات الأجنبية فيه استعداداً للإجلاء. أوقفتني وأسرتي ثمانية حواجز للتفتيش وكلّ منها يسألنا عن عملنا ووجهتنا. كنت أعلم أن أي طبيب تُكشف مهنته سيُختطف وينقل لعلاج جرحى المعارك، والرصاص كفيل بمن يعترض. كان التوتّر لديّ في ذروته، مخافة أن يتعرف إليّ أحد سكان المنطقة أو يعرف أني طبيب”.
سينجح ابن مدينة دنقلا الشمالية أخيراً في مغادرة الخرطوم بمعية زملاء له لبنانيين وأردنيين، على اعتبار أن حافلات الأجانب لم تكن تتعرض للتفتيش آنذاك. ولكنّ خبراً سيئاً سيصل إليه حين يرى عيادته تحترق أمام عينيه، والكثير من الجثث المنتشرة، في المشهد الأخير أمام ناظريه قبل مغادرة المدينة.
“القاتل الأكبر”… الجوع يهدّد الملايين
خمسة ملايين سوداني باتوا مهددين بانعدام غذائي كارثي، وفقاً لتقييم برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة، وسط عجز عن الوصول إلى 90 في المئة من السكان بحسب المنظمة الدولية. أرقام بحسب معلمة اللغات حياة منصور تبدو أكبر من مجرد بيانات رسمية تصدر في ذكرى الحرب. فابنة مدينة الحصاحيصا بولاية الجزيرة عاشت التجربة خلال اقتحام عناصر “الدعم السريع” للحقول والقرى بالولاية التي تصنف خزاناً لطعام السودان، بحسبها. وتقول منصور لـ”النهار العربي”: “الصدمة لدي مزدوجة: أن تفاضل بين الموت جوعاً أو الموت بالرصاص، وأننا جوعى في بلد كنت أعلّم تلاميذي أنه سلة غذاء العرب، وإذ بنا نأكل بقايا الذرة أو نتقاسم وجبة كل يومين”. فالجزيرة التي كانت تصنف ولاية آمنة حتى كانون الأول (ديسمبر) الفائت، اشتهرت بمساحات زراعية ضخمة لحقول القمح والذرة والخضار، وهو ما ساعد على توافر مختلف أصناف المواد الغذائية في الأسواق قبل أن تتعرض المنطقة لهجوم من “قوات الدعم السريع”، مما أدى إلى فوضى واقتحامات للبيوت وسرقة سيارات وأموال، بل ومنع السكان من المغادرة حتى سيراً على الأقدام، بحسب المعلمة التي تضيف: “كنا أسرتين من 12 شخصاً وخرجنا مرات عدة. في البداية نهبوا سيارتنا وأعادونا، ثم عادوا إلى البيت وهددوا بقتل الرجال أمامنا ما لم نسلّم لهم كل ما لدينا من مال ومؤن، فيما الأسواق خالية كلياً والمواد إن توافرت سيصل سعرها إلى عشرة أضعاف”. لا خيار إذاً أمام السيدة الأربعينية وعائلتها سوى البحث عن ما يسدّ الرمق بانتظار لحظة فرج، كما تصفها، تدفعهم خارج الولاية. ومع هذا كله كان مصيرها أفضل من غيرها، فثمة عائلات لجأت إلى المطابخ الجماعية على أمل الحصول على بضع لقيمات، لتتوقف المبادرات بسب انقطاع الاتصالات التي لم تعد إلا قبل أيام. و”وصل الحال ببعض الأسر إلى أكل الحشرات والجراد رغم تعرضه لمبيدات وأسمدة زراعية في وقت سابق، ووصلت بآخرين لنبش القمامة عساها تجد أي شيء يقيتها”.
“بطلوع الروح”، تقول منصور، نجحت أخيراً مع عدد من أسرتها بالوصول إلى ولاية سنار جنوباً، لكنها تتساءل عن مصير مئات الآلاف من العالقين في ود مدني وباقي القرى بالجزيرة، معلقة: “القاتل الأكبر للسودانيين ليس الجيش أو الدعم السريع، بل الجوع”.
“بكرا ما سمح”
قبل شهر من اندلاع الحرب، نجح الموظف في قطاع الطيران محمد الفاتح في قضاء أيام إجازته في رواندا ليعود إلى بلاده مع بداية شهر رمضان ويشهد على الأيام الأخيرة قبل الاشتباكات. قد تكون مصادفة، بحسب ابن مدينة أم درمان، أنه شاهد خلال زيارته للعاصمة كيغالي متحف الإبادة الجماعية، الشاهد على الاقتتال الدامي بين قبائل الهوتو والتوتسي وسقوط قرابة مليون ضحية، “فيما العالم بقي يتفرج”، وفق تعبيره. ويقول لـ”النهار العربي”: “السودان يقترب من رواندا جديدة بينما خطاب الكراهية يتصاعد والعالم غير مهتم بنا. ففي دارفور، القبائل العربية تطحن الأفارقة، والويل لعربي يمر بمناطق القبائل الأفريقية. هناك فوضى بالسلاح والجميع يريد أن يحمل البنادق، ولكن من يضمن عدم تفكك السودان والتناحر بين المدن والولايات؟”.
لا يبدي الفاتح أي تفاؤل بغدٍ أفضل ينتظر السودان، طامحاً لما يصفه بالخلاص الفردي: “هدفي تجديد جواز السفر وتجميع المال للهجرة. غداً لن يكون جميلاً وعلينا نسيان وطننا السودان كما نعرفه. بكرا ما سمح (الغد لن يكون أفضل) والبلد ده مَشَى مننا (خسرنا هذا البلد)”.