آراءعبد الباسط سيدا02 نوفمبر 2021
من بين المشكلات الأساسية التي تعاني منها القوى السياسية في منطقتنا أنها ما زالت، كما كانت، ترى في الاستبداد الشرقي نموذجاً للحكم. ما زال يدغدغ عواطفها، ويمثل الهدف بالنسبة إليها. أما الانتخابات فليست في منظور معظمها، سوى الوسيلة للوصول إلى الحكم الذي يتماهى لديها مع المُلْكية، لتتمكّن من تسخيره لترتيب الأوضاع وفق ما يمكّنها من التحكّم والاستمرارية، عبر التضييق على الخصوم الواقعيين والمحتملين، وتهميشهم، وإخراجهم من دائرة الفعل والتأثير.
هذا بينما يكون الحكم في ظلّ الأنظمة الديمقراطية المستقرّة تكليفاً بإدارة المجتمع خلال فترة محدّدة، معلومة للجميع. وبناء على مبادئ دستوية وقواعد وقوانين واضحة عامة، تسري على الجميع، وذلك بموجب انتخابات شفّافة، نزيهة، يشارك فيها المواطنون بكل حرية، ترشيحاً وتصويتاً. والانتخابات الديمقراطية عادة تجسّد حالة تنافسية بين مختلف القوى والأحزاب السياسية التي تريد الوصول إلى الحكم، أو المشاركة فيه، وذلك بناء على بيانات أو برامج واقعية تفصيلية ملموسة، تبيّن أوليات هذا الفريق أو ذلك، في حال بلوغه الحكم بموجب إرادة المواطنين الأحرار. والانتخابات، بهذا المعنى، تخصّ الأنظمة الديمقراطية التي تعتبر أن المواطنين، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والقومية والعرقية، وتوجهاتهم السياسية والفكرية، هم على المستوى نفسه من جهة القيمة الإنسانية والحقوق والواجبات. يحقّ لهم التعبير عن آرائهم بكل حرية عبر مختلف الأقنية. أما الحكومة الديمقراطية فهي التي تكون حصيلة الانتخابات الحرة؛ وتكون مهمتها إدارية، حكومة تلتزم بمبدأ تقاسم السلطة بين المؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية. كما تخضع للمساءلة والمحاسبة، وتلتزم بمبدأ التداول السلمي للسلطة، بناء على نتيجة الانتخابات… هذا في حين أن مفهوم الحكم في منطقتنا ما زال متداخلاً مع مفاهيم التحكّم والسيطرة والتملك.
اعتُبر النظام البرلماني الذي اعتُمد بناء على دستور 2005 الإطار الأنسب لمعالجة الوضع العراقي
في هذا السياق، كانت التجربة العراقية، بعد إسقاط نظام صدّام حسين عام 2003 بفعل التدخل العسكري الأميركي المباشر، واعدة في بداية الأمر؛ إذ كان من المأمول أن يتمكّن النظام الجديد من إطلاق حريات الناس، وتحقيق المساواة بينهم، وتأمين الحاجات والخدمات الأساسية لهم؛ فضلاً عن توفير فرص التعليم والعمل، وذلك بفضل الإمكانات الاقتصادية الكبيرة للعراق، سيما في ميدان النفط. كما اعتُبر النظام البرلماني الذي اعتُمد بناء على دستور 2005 الإطار الأنسب لمعالجة الوضع العراقي، على الرغم من مثالبه والملاحظات النقدية الكثيرة حوله، فقد وضع هذا النظام حداً لعقود من الانقلابات والدكتاتورية، تسببت في مآسٍ كثيرة لمختلف المكوّنات العراقية، نتيجة السياسات التمييزية الاضطهادية التي اعتمدتها جماعات الحكم التي لم تراع خصوصيات المجتمع العراقي، وأسهمت في زعزعة استقرار المنطقة عبر حروب ومشاريع عبثية، خصوصا في عهد حزب البعث، وفي المرحلة الصدّامية تحديداً، وهي الحروب والمشاريع التي ما زالت منطقتنا تدفع ضريبتها الباهظة.
لكن مع التغلغل الإيراني إلى مفاصل الدولة العراقية بأجهزتها المختلفة، لا سيما العسكرية والأمنية منها، تمكّنت الأحزاب والتيارات التي تعدّ الواجهة السياسية للمليشيات العسكرية المرتطبة عضوياً بمشروع الهيمنة الإيرانية على العراق، من بناء التحالفات في ما بينها، واستطاعت التضييق على القوى والشخصيات الوطنية الفاعلة، لتصبح بعيدةً عن العمل السياسي المؤثر على مستوى مؤسسات الدولة العراقية وأجهزتها. وتمكّنت هذه الأحزاب والتيارات من الهيمنة على مجلس النواب العراقي، الأمر الذي حدّ من فاعلية الأحزاب والتيارات الوطنية العراقية. كما كان عدم الحسم في موضوع تفسير التعريف الدستوري لمفهوم الكتلة الكبرى، المفروض أن تُكلف بتشكيل الحكومة، والاجتهادات الرغبوية حول ذلك، من بين وسائل التحكّم بالمشهد السياسي، بغض النظر عن نتائج الانتخابات.
النفوذ الإيراني يتقلص تدريجياً بالتناسب مع تنامي الوعي الوطني العراقي الرافض له بعد التجارب المريرة معه
وأمام تكرار المشهد ذاته بعد كل دورة انتخابية، وتفاقم صعوبة الأوضاع المعيشية، والانحدار الحاد في مستوى الخدمات الضرورية لتأمين أبسط مقوّمات الحياة الكريمة للمواطنين، مثل الماء النظيف والكهرباء والخدمات الطبية، نتيجة الفساد المرعب الذي التهم الموارد المالية الضخمة للبلد الغني؛ تفاقم التذمر الشعبي العام، وتجاوز الحدود الطائفية المحميّة من المنتفعين منها. وتجسّد ذلك التذمر بصورة خاصة في احتجاجات واعتصامات تشرين الأول/ أكتوبر 2019، التي كان من نتائجها استقالة حكومة عادل عبد المهدي، وتشكيل حكومة مصطفى الكاظمي التي كُلفت بتنظيم الانتخابات البرلمانية المبكّرة؛ وهو الأمر الذي حصل. ويسجّل لهذه الحكومة التي حصلت، في الوقت ذاته، على الدعم المعنوي من تيارات سياسية عراقية ومرجعيات دينية عديدة، وأسهم ذلك كله في نجاح العملية الانتخابية، على الرغم من انخفاض نسبة المشاركين، لا سيما من الشباب.
جاءت احتجاجات المليشيات “الولائية” على نتائج الانتخابات التي انتظمت الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول) لتؤكد مرة أخرى إفلاسها على الصعيد الشعبي في الأوساط التي من المفروض أنها تمثلها؛ وهذا ما يعطي الأمل بإمكانية نهوض العراق مجدّداً، وذلك بفضل وجود قوى سياسية تمتلك من الخبرة والوزن ما يمكّنها من تجاوز الخلافات البينية، وذلك لصالح مشروع وطني عراقي يكون بالجميع وللجميع.
أما بالنسبة للنفوذ الإيراني، فهو سيتقلص تدريجياً بالتناسب مع تنامي الوعي الوطني العراقي الرافض له بعد التجارب المريرة معه. كما أن الحضورين، العربي والدولي، في العراق إنما هو رسالة إلى النظام الإيراني، تؤكّد أن البلد ليس ساحة مستباحة أو حديقة خلفية يستخدمها للتمدّد والتوسع في المجتمعات المجاورة، خصوصا في سورية ولبنان.
لن يتحقق شيء من دون توافق العراقيين على حكومة وطنية جامعة، تعبّر عن إرادة العراقيين، وتعمل على تحقيق تطلعاتهم نحو السيادة والكرامة
وفي هذا السياق، لا بد من أن يُشاد بما حققته الحكومة العراقية المؤقتة من نجاحاتٍ على صعيد الانفتاح العربي، والتواصل الدولي، وتمكّنها من عقد مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة 2021. كما لا بد من تقدير جهودها الحثيثة في ميدان التخفيف من حدّة التوتر الطائفي، ومعالجة أسباب التشنج على مستوى العلاقات بين الأديان والمذاهب والقوميات. ويُشار هنا إلى ما حقتته زيارة البابا فرنسيس إلى العراق الربيع الفائت، من جهة تسليط الضوء على أهمية العيش المشترك وإمكانيته بين أتباع مختلف الأديان في العراق. وهناك آمال معقودة على الزيارة المرتقبة لشيخ الأزهر، أحمد الطيب، إلى العراق، والتي سيلتقي خلالها مع المرجع الشيعيات العراقية، خصوصا مع علي السيستاني، ومع المرجعيات السنية والمسيحية وغيرها؛ وذلك سيساعد في تعزيز مكانة الحوار والتفاهم بين الأديان والمذاهب. وستساهم كل هذه الخطوات في تأكيد أهمية مبدأ حيادية الدولة، ووقوفها على مسافةٍ واحدةٍ من جميع مواطنيها، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والمذهبية والقومية، الأمر الذي سيحدّ من تأثير الاستراتيجية الإيرانية المذهبية في التوجّه إلى المجتمع العراقي ومجتمعات المنطقة، وهي الاستراتيجية التي أضرّت بالمنطقة وبإيران نفسها. ولعل هذا الأمر يساهم في دفع الإيرانيين نحو إجراء مراجعة جادّة وعميقة لتوجهاتهم واستراتيجياتهم، وبما يساعد على تحوّل إيران إلى دولةٍ طبيعيةٍ على استعداد للتفاهم والتعاون مع جيرانها، بناء على المصالح المشتركة، وبما يفتح الآفاق أمام تنميةٍ مستدامةٍ تكون في صالح أجيال المنطقة المقبلة، بكل انتماءاتها وتوجهاتها. غير أن هذا كله لن يتحقق من دون توافق العراقيين على حكومة وطنية جامعة، تعبّر عن إرادة العراقيين، وتعمل على تحقيق تطلعاتهم نحو السيادة والكرامة والعدالة الاجتماعية، بموجب مشروع وطني عراقي، يطمئن الجميع على مستوى العراق قبل كل شيء، وعلى مستوى المنطقة والعالم.